علامات الفكر المتهافت.. العلامة الثالثة: القهر والإكراه الشيخ مولود السريري

كلُّ رأيٍ أو معتقدٍ يفرض بالقوَّة والإكراه مآله بمقتضى وحكم مجريات السنن الكونية الزوال والسقوط، ولو بعد حين.
لأنَّ الإكراه يغل العقل ويسد عن الفهم الصحيح للأشياء، كما يذهب بأهم مقوم لماهية الإنسان؛ وهو الفكر والنظر، وبذلك يصدُّ عن كسب المعرفة الصحيحة التي تقوم على الحجج والبراهين المثبتة لمقتضياتها، والتي تصل إلى القلوب فتمس شغافها، بعد أن تكون مستقرة في الأذهان ممكنة من القيام بها على ثبات توجبه العقول وأدلة الواقع.
ومن أظلم ممن منع الناس عن الاستفسار والاستفهام عن حقائق الأشياء، وماهياتها وعن الأحكام المجرات عليها، وجرى على قمعهم أو تضليلهم استعلاء عليهم واحتقارًا لهم، واستخفافًا بعقولهم.
ولا ريب أنَّ الإكراه والقمع وسائله كثيرة؛ إذ منها ما هو مادي كالتخويف، وإلحاق الضرر والأذى.
ومنها ما هو معنوي كسلطان العوائد المبنية على الأهواء والتضليل بالتفخيم والتهويل والتمويه، وتصوير الأشياء على غير ما هي عليه من حال، وتقديس ما ليس إلَّا رأيًا بشريًّا، وحصر الحق فيه، ومنع بحثه والاستفسار عن مستنده، وإن كان ذلك ممن كان غرضه معرفة الحق، ويتجنب الاستفزاز والاستنكار، ويعتمد على الاستفسار في مجريات بحثه عن الحقيقة والصواب، ويرى أنَّه لا يحق له غير ذلك، إذ هو ما زال في فترة الغبش النظري ومرتبة المتردد، وإن كان مزاجه النفسي يميل إلى ترجيح أمرٍ ما في موضع بحثه، فإن ذلك أمر غير معول عليه في الحقيقة وواقع الأمر.
وربَّما كان الخلق الحسن والأدب الرفيع ملازمًا للعقل النافذ إلى الأعناق، ولكن أكثرهم لا يعلمون.
وفي هذا العصر جماعات مختلفة المشارب والمذاهب، لكنها اتَّحدتْ على قمع المخالف وإلقامه الحجر كلما باح برأيه، وإن لم يكن في أسلوب تناقشه ما يجرح، أو يؤذي.
من هذه الجماعات حملة الفكر الغربي الذين استبدلوا آراء البشر وأثمار أنظارهم بالشرائع الدينية، وذلك لبغضهم لهذه الشرائع واشمئزازهم منها، وموجب ذلك قد تقدم ذكره، فلا تكن من الغافلين.
هذه الجماعة ترى جريان سلطان هذا الفكر -على ما فيه من فساد- على رقاب الخلق، ويمضي عليها حكمه بلا نقاش، ولا مراجعة، ولا نقض فكري، ولا تقويم أخلاقي.
وهذا -كما لا يخفى- مخلٌّ بمبدأِ الحوار والتناقش الفكري الذي يتوسل به إلى بناء المعرفة المشتركة بين الناس، وبمبدأ نسبية الفكر البشري كيفما كان، وبمبدأ حق الاختلاف الفكري وخاصة فيما يستشعر فيه الحيف والجور، وطمس معالم العدل والإنصاف بقسم الناس إلى تابعين مقلِّدين -بالكسر- على عماية، ومتبوعين مقلَّدين -بالفتح- مطاعين، ولسان حالهم يقول “سلم تسلم” نحن أنبياء الفكر والنظر…
لا تتورع هذه الجماعة في صلف متناه في الوقاحة عن الاستخفاف بعقول الناس غير أسيادهم وأئمتهم، وتضليلهم بألفاظ مشحونة بالتهويل وهي فارغة من أي معنى محدد معتبر يجري مقتضاه في واقع الحال، وذلك كلفظة “الحداثة” و”القيم الكونية” و”الحرية الفردية والجماعية” و”المساواة” وما شابه ذلك من الألفاظ الجميلة المعنى والمقبول مدلوله اللغوي عند جميع عقلاء الأرض وبذلك يتشوفون إلى تنزيلها على واقع الناس؛ لأنهم يرون أن مضامينها:
أولاً: مساواة الأمم في وضع هذه القيم الكونية، وهذا لا يتم إلَّا بإشراكهم في ذلك والأخذ برأيهم فيه، ثم عند الاختلاف يعتصم كل بما يراه أصلح له وأليق بحاله بناء على مبدأ “حرية الأفراد والجماعات…
لكن هذا كله سقط في الواقع اعتباره لتصرف الأقوياء في كل شيء على الوجه الذي يرضيهم، ومن ذلك جعلهم مقتضى هذه المقالات أزمة وقيودًا في أعناق المستضعفين يقودونهم بها على وفق ما يشتهون، وما يمكنهم من درك مصالحهم، لا غير، وبذلك فهم يؤولون تلك المقالات على وفق ذلك، فلا يسري عليهم حكمها، كأنهم غير مخاطبين بها على الإطلاق.
وهذا أمر واقع مفروض بالقهر، والإكراه، لكن ما قيمة فكر هذا حاله وأساسه؟!
لا يتردد المتغربون في الاستنجاد بأهل القوة والسلطان لفرض فكرهم على الناس، وإن كان في ذلك محق لكرامتهم وتدمير لإنسانيتهم التي من مقوماتها التي بنيت عليه بموجب الفطرة والتربية هذه الخصائص الأخلاقية والسلوكية التي يسدد لها هؤلاء المتغربون سهام النقد والنقص على الدوام، لا يعبأون بألم أحدٍ ما دام من الصنف المغضوب عليه.
ومن هذه الطوائف -التي تعتمد على القهر والإكراه- طائفة أخرى ترى أن الاتصاف بالإسلام متوقف على موافقتها، واتباعها على ما هي عليه من حال، اتباع طاعة وتقليد، على عماية.
ابتدعت هذه الطائفة في أمر التشريع الإسلامي ما لم تسبق إليه، وليس لها فيه سلف عند أهل السنة.
وما ابتدعه هؤلاء هو “التجريح والتعديل” للنظار في الأدلة الشرعية والفقهاء، فكان هجيراهم صباحًا ومساءً ذم كل من ليس على سبيلهم في هذا الشأن، ووصمه بأنه مجرح يجب أن يتقى، لا حرمة عندهم لعالم حيًّا كان أو ميّتًا، وإن كان اعتناؤهم في هذا الشأن بالأحياء أكثر.
وبذلك كان وزن الرأي الفقهي لفقيه ما وتقويمه -عندهم- هو قول شيخهم في ذلك الفقيه، فإن قال فيه إنه مجرح ردوا قوله، ونهوا عن الاستماع إلى مقاله، وإن صح قوله فِقهًا، وإن قال فيه: إنَّه عدلٌ، قبلوا قوله واعتبروه صحيحًا، وأمروا بالاستماع إليه، وإن كان قوله بمقتضى الأدلة الشرعية باطلاً.
والذي أجمعت عليه الأمة من زمان الصحابة -رضي الله عنهم- أنَّ الرَّأيَ الفقهيَّ وإن جهل قائله تعتبر صحته وبطلانه باعتبار الدليل الذي بني عليه.
فأنت لو فتحتَ كتب فقه مذاهب السنة كلها لن تجد في مجال الترجيح إلَّا هذا الأمر، وما كان أحدٌ من أهل العلم المتقدمين يبحث عن سيرة قائل هذا القول أو ذاك، وما قيل فيه. ثم على وفق ذلك يحكم على قوله على الإطلاق، لأنَّ المعتبر في الأحكام الشرعية أدلتها الشرعية، فما حكمت بصحته صح، وما حكمت ببطلانه بطل، ولو كان قائله أعدل أهل زمانه.
تُرى متى ألغي هذا المعيار، وجيء بعدم اعتباره، وجيء بهذا الهذيان ليتوصل به إلى معرفة الحق والباطل في واقع الأمر، وهو الذي إليه المفزع عند كل نزاع بين النظار في المسائل الفقهية والعقدية وهو الفارق الفيصل بين مذهب أهل السنة والجماعة، ومذاهب الفرق الأخرى.
نعم، ألغي عندما وقع الإعراض عما أجمع عليه أهل السنة والجماعة من الأصول ومناهج النظر فيها وجَرَوْا عليه، وتركت دراستها لصعوبة التعلم، واستبدل ذلك بالتنقيب عن عيوب الناس والبحث عن زلاتهم وسقطاتهم، فحصر الحق في “تعديل فلان” والباطل في “تجريح فلان”، وقد يكون ذلك التجريح بسبب اختلاف فقهي.
ولا يخفى أنَّ هذا السبيل مخل بمبادئ أجمع عليها علماء المسلمين منها:
أولا: أن الشخص الذي يكون قوله حجة في أمور الدين بذاته لا بد أن يكون منصوصًا عليه بنفسه شرعًا، وهذا لم يكن إلَّا للرسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- وحده.
ثانيًا: أن العلم بالصفة الشرعية التي تبنى عليها الأحكام الشرعية يدركه جميع علماء الشريعة بلا استثناء، وهذه الصفة تسمى مناط الحكم؛ والفقيه إذا ادعى وجودها في موضع ما يجب عليه أن يستدل بما من الأدلة يثبت به مدعاه، ثم إنَّ رأيه في ذلك لا يعدوا أن يكون عن ظن راجح.
ثالثًا: أنَّ الرأي الفقهي وإن كان شاذًّا لا يستوجب التجريح والهجران، فقد قال بآراء أجمع العلماء على شذوذها بعض الصَّحابة والتابعين، وما نقل أنَّ أحدًا جرحهم.
رابعًا: كون أفعال الجوارح قد تسري عليها الأحكام الشرعية الخمسة بحسب الأحوال الموجبة لذلك، وهؤلاء خالفوا هذا فحكموا على بعض أفعال الجوارح بحكم ثابت قار، إذ حكموا على “المظاهرات” وما ماثلها بأنها محرمة بإطلاق، من غير تفصيل، ولا تقييد، ثم نقلوا هذا الأمر فجعلوه أمرًا عقديًّا، كما فعل الروافض في شأن الإمامة.
ولا يوجد في هذه الشريعة حكم شرعي مستقرٌّ على فعل جارحي على الدوام، وفي جميع الأحوال، إذ جميع أفعال الجوارح تجري عليها الأحكام الخمسة باعتبار الأحوال العارضة للمكلف، وإن كان كلُّ فعلٍ له حكمه الأصلي الذي لا يجوز خلافه والخروج على مقتضاه إلَّا لموجب شرعي اقتضى ذلك.
ومن ادعى خلاف هذا فليأت بما يثبته، إذ الأحكام الدائمة إنَّما تجري على أفعال القلوب -كالكفر والإيمان-، لأنها لا حاجة إلى هذا الاعتوار عليها، فسبحان من وضع هذه الشريعة وأنزل هذا الدين العظيم ذا الأسرار والرحمة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *