عفوا دعاة الأمازيغية.. الحقيقة الضائعة في المسألة ذ. المحجوب جابر

 

قبل البدء في مناقشة الموضوع لابد من الإشارة إلى انتمائي الأمازيغي والتعريف بنفسي بكوني ذو أصول أمازيغية من جهة الأم والأب معا، وإلى قبيلة زناكة الصنهاجية الأمازيغية التي تقع على بعد مائة وعشرين كلم عن مدينة ورزازات في اتجاه أكادير قيادة تازناخت.

أذكر هذا التعريف حتى لا يزايد علي أحد أو يصنفني إلى جهة معينة. فأنا ابن “تمازيرت” التي أقضي فيها العطلة الصيفية وأزورها في غير العطلة كلما سمح الوقت بذلك، ولا أحس بأي مركب نقص وأنا أحاول تسليط الأضواء الكاشفة على موضوع يهمني بالأساس، لكوني أمازيغي أعتز بانتمائي العربي والإسلامي. هذه الحقيقة التي يعمل على إخفائها المتعصبون و الإقصائيون الذين ورثوا الحقد الأعمى من السيدة فرنسا.

انطلاقا من انتمائي الأمازيغي والعربي والإسلامي سأحاول طرح الموضوع بهدوء معتمدا على حقائق تاريخية وكتابات موضوعية تساهم في إجلاء الحقيقة إلى حد ما بعيدا عن الأنانية والشخصنة والتمييع الذي لا يخدم القضية في شيء.

إن اعتناق البربر للدين الإسلامي إلى جانب الهجرة الهلالية إلى بلد المغرب لهو الحدث الفارق في تاريخ المغرب هذا ما اعتبره أغلب المؤرخين الفرنسيين رواد الحقبة الاستعمارية الموضوع الرئيسي لتاريخ شمال إفريقية منذ النصف الأول من القرن 19، تماشيا مع الأهداف الكولونيالية الفاشية التي كانت سائدة في تلك المرحلة من تاريخ هذه المنطقة تفعيلا لسياسة السوسيولوجية والهيمنة الاستعمارية خطان لسكة واحدة. أو علم السوسيولوجيا في خدمة الفكر الكولونيالي.

إن تجريم العرب ووصفهم بالمجتاحين المخربين كان مجرد تبرير لإضفاء الشرعية على الاستعمار الفرنسي ببلاد المغرب، واعتباره ينطوي على مهمة فرنسا “الحضارية”. يعبر عن هذا التوجه لويس برنارد عضو الأكاديمية الفرنسية والمرشد الرسمي للحكومة العامة بالجزائر، الذي يتحدث عن منطقة البربر المسيحية التي عاشت زمنا طويلا خاضعة للمجتاحين الشرقيين، ثم عادت إلى حضن الغرب والدين المسيحي.. ويرمز إلى منطقة البربر المسيحية بشخص القديس أغيسطينوس.

وفي نفس التوجه والسياق يقول جورج مارسي في كتابه:la berbèrie musulane et l’orient au moyen âge ص:35 (لقد أحست إفريقية الشمالية بألم عميق وإلى الأبد بهذه النكبة)، ويقول أيضا: (إن أسلمة بلاد البربر تطرح قضية تاريخية لا أمل لنا في حلها).

أما كريستيان كورتوا فقد تساءل من جهته عن الأسباب التي أدت ببلاد البربر إلى التخلي شيئا فشيئا عن “رومانيتها” في كتابه les vandales de l’Afrique.

وهو بذلك يريد أن يكمل البحث الذي بدأه إيميل فيليكس جوتيي الذي راح يبحث عن تفسير الكيفية التي أصبحت بها إفريقية الشمالية أرضا “مشرقية” أي أرض إسلام ولماذا لم تصبح دولة مغربية مستقلة بعد انهيار خلفاء المشرق؟

سجل تساؤله في كتابه le passé de l’Afrique du nord والباحث نفسه رأى في الزحف الهلالي مجرد تبديد للثروات الهائلة التي كان قد تم خلقها على عهد السيطرة الرومانية متهما العرب بتحطيم حضارة المغرب الموروثة عن الرومان والبزنطنيين مشبها الهجرة الهلالية بهمجية الشعوب المتبربرة المحطمة لحضارة روما.

ومما يثير الاستغراب أن نجد بعض المؤرخين المغاربة والباحثين في المسألة الأمازيغية يجترون هذه الأفكار الاستعمارية الفرنسية، ولا داعي لذكر الأسماء هنا حتى لا نقع في الشخصنة والردود المتعصبة التي نحن في غنى عنها.

وغير خاف علينا أن العديد من الكتاب الفرنسيين كانوا يرمون من وراء كتاباتهم إلى إحياء العصبية البربرية والنيل من أواصر الأخوة والتلاحم التي تأسست بين العرب والأمازيغ عبر قرون طويلة ببلاد المغرب وغرس فكرة أن البربري هو الأصل وأن العرب هم الغزاة الدخلاء.

يقول شارل روبرت أجيرون في كتابه: (الجزائريون المسلمون وفرنسا): “البربري متفوق على العربي وأن الشعب البربري وحضارة البربر فيهما من صفة التجانس ما يسمح لهم بشرف الادعاء أنهم أمة، وهي ميزة لا يحق للعرب ادعاؤها”.

إن المتاجرة بالعرقية في سبيل محاربة إسلامية الدولة؛ منهج الاحتلال الإمبريالي، ولقد فشل المحتل في هذه المتاجرة الكاسدة لأنها اصطدمت بشمولية الإسلام وهيمنته على جميع مناحي الحياة الفردية والجماعية.. فإذا تم إضعاف وإعدام هذه الشمولية والهيمنة التي هي مقتضى العبودية لربّ العالمين؛ أطلت بقرونها ثورات العرق وفدرالية القبائل.. ويومها لنسلّم جميعا سلام وداع على وحدة ودين هذا البلد.

الواقع أن إرادة التقسيم في السياسة الاستعمارية الفرنسية هي التي تبنت أطروحة التعارض بين البدوي العربي والحضري البربري بالمغرب والجزائر.

يقول إيف لاكوست في كتابه “ابن خلدون”: “وهذه الأسطورة ليست ثمرة المصادفة، وقد حيكت بوعي، وانطبعت في إطار الأيديولوجيا الكولونيالية.. فالجنرالات الفرنسيون منذ بداية احتلال الجزائر جهدوا في تفريق العرب وأهل القبائل”.

ومن الواضح أن هذه الأسطورة كانت تهدف إلى اظهار العرب والإسلام كقوى استعمارية تسلطت على السكان الأصليين “البربر” لتسلب منهم ممتلكاتهم وهويتهم على الخصوص، ومن تم يصبح دور الحماية الفرنسية هو الدفاع عن البربري المضطهد الذي حافظ على الرغم من طول “الاستعمار الإسلامي” على أصالته وعلى استقلاليته. (عبد الصمد الديالمي: ملامح تطور السوسيولوجيا بالمغرب).

إن كتابات المؤرخين الاستعماريين تظهر أن العهد الروماني هو الفترة التي عرفت فيها بلاد المغرب والجزائر الاستقرار وانتشار العمران وتماثلها في ذلك فترة الاحتلال الفرنسي التي أعادت هي أيضا أمجاد روما ووضعت حدا للفوضى بل تميزت بالاستقرار والرقي والتقدم… وأن هذه البلاد عاشت فترة مظلمة تحت الاستبداد الشرقي “الإسلامي” قبيل أن يسترجعها الفرنسيون الذين يعتبرون أنفسهم آخر الفاتحين وأكثرهم تحضرا وإنسانية (ناصر الدين سعدوني؛ دراسات وأبحاث في تاريخ الجزائر).

إن هذه الأسطورة التي كانت لصيقة بالسلطات الاستعمارية الفرنسية قد أحياها ورثتهم من دعاة الأمازيغية في إطار مؤامرة كبرى على العالم العربي والإسلامي وضمن مخطط فصل الشمال الإفريقي عن محيطه العربي، وخلق زعزعة في عقيدة الانتماء والهوية التي تقاسمها العرب والبربر طيلة قرون خلت.

اجتهدت فرنسا كثيرا في المغرب لأجل محاربة اللغة العربية، وسنّ القوانين لتدريس الأمازيغ بالفرنسية، وتكوينهم ليكونوا أطرا تابعة لنظام الاحتلال.. بل استغلت وجود قبائل ومناطق تتحاكم إلى أعرافها وزعمائها، لتعمم على الأمازيغ قضاء وضعيا لا علاقة له بأحكام الشريعة الإسلامية..

كما أتقنت مخططها في غرس قيم التعصب في قلوب وعقول من لا يملكون ولاء للدين الذي يجمع المغاربة؛ وإن كانت فشلت في تقسيم المغاربة شعبا إلى عرب وأمازيغ.. لكنها تركت فكرا إقصائيا وعرقيا سيرضعه أولادها في محاضن خاصة وتحت رعايتها، لتنفيذ مخططها الصهيومسيحي خاصة بعد اندحار الفكر الشيوعي الماركسي في المنطقة، خصوصا مع تهميش مناطقهم سياسيا واقتصاديا ومجتمعيا وعمرانيا، ما ولد حقدا لدى من جعلوا ولاءهم الكبير للثقافة الأمازيغية الوثنية والفكر الغربي المادي.. حتى طالب أحمد الدغرني العرب أن يرحلوا من المغرب ويحملوا معهم كتباهم (القرآن )، يوم استقوى بحزبه الذي أسسه على نزعة عرقية عصبية تريد محاربة ومواجهة العرب عرقا ودينا.

أما العربية التي تضايق هؤلاء فيجب أن يعلموا أن علماء المغرب الأمازيغ الشرفاء رحمهم الله قد برعوا فيها وألفوا المؤلفات وأمهات الكتب!

ككتاب الأجرومية في النحو الذي ذاع صيته في المغرب والمشرق، والذي ألفه ابن أجروم، أو أكرام. ومعناها بالأمازيغية: الفقير الصوفي إنه عالم أمازيغي.

ناهيك عن التآليف الجليلة التي خلفها المختار السوسي الأمازيغي، المعسول مثلا، وكان يقول رحمه الله: خذو العربية من شلحكم.

وابن بطوطة صاحب الرحلات والواصف لها بالعربية، وغيرهم الكثير من العلماء الأجلاء الذين تفانوا في خدمة اللغة العربية ونشر الدين الإسلامي والدعوة إليه.

هؤلاء الأعلام، الذين ذكرنا البعض فقط حتى لا نطيل، كانوا يمثلون الطبقة المثقفة الواعية في مجتمعهم وكانوا بإشارة واحدة منهم تتبعهم الأمة وتمتثل لفتاويهم وأوامرهم. هل يعتبرهم دعاة الأمازيغية اليوم خونة وعملاء للاستعمار العربي الإسلامي؟

ولماذا الأسر التي تعاقبت على حكم المغرب، وهي ذات الأصول الأمازيغية من جنوب المغرب كالمرابطين والموحدين والسعديين، كان المغرب الأقصى إمبراطورية عظيمة إبان تلك الحقبة التاريخية، فحملت على عاتقها نشر الإسلام واللغة وبناء دولة مهابة الجانب حيث الأطماع الأجنبية كانت تحيط بالمغرب.. واستمر حكم هذه الدول مئات السنين، وهي التي أتت من بين أحضان الجبال الأطلسية والصحراء، فلماذا لم تنتقم للأمازيغ من العرب بعد تملكها للسلطة والسطوة؟

إنها شمولية الإسلام تلك العقيدة التي وحدت المغاربة على اختلاف أعراقهم وأجناسهم، وفهموا جيدا ما جاء في كتابه الحكيم: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ”، وتفاعلوا مع قول نبيه -صلى الله عليه وسلم-: “لا فرق بين عربي وعجمي وأبيض وأسود وأحمر وأصفر إلا بالتقوى”..

هكذا فهم الأمازيغ والبربر الإسلام فاعتنقوه عن اقتناع وإيمان وطردوا الوثنية والمجوسية والنصرانية المستبدة من حياتهم الى الأبد. بل صاروا حماة لهذا الدين ودعاة إليه فحملوه إلى أدغال إفريقيا وهم يمارسون تجارة القوافل مع أهلها..

واسألوا التاريخ عن المعارك التي خاضها الأمازيغ من أجل نصرة الإسلام ونشره، فالزلاقة والأرك ووادي المخازن معارك فاصلة في تاريخ المغرب إلى جانب فتح الأندلس بقيادة الأمازيغي المغمور طارق بن زياد الذي قاد جيشا أغلبه من المقاتلين الأمازيغ الذين بذلوا أنفسهم في سبيل الله ونشر دينه وتعاليمه في الضفة الأخرى من البحر.

شوكة إذن لا زالت عالقة في حلق الكنيسة منذ ذلك التاريخ أضيفت إليها شوكات متتالية في هزيمتهم في الزلاقة والأرك ووادي المخازن.

قبل الختام نؤكد أن الاستعمار الفرنسي للمغرب جاء ليعيد الأمور إلى ما كانت عليه قبل الإسلام حيث كانت المنطقة جزء من الإمبراطورية الرومانية الصليبية، فلم تنجح على الأرض عمليا بسبب يقظة كل مكونات الشعب المغربي، لكنها تركت فكرا عنصريا يعيد مشروعها إلى الوجود عبر أدواتها من أبناء الوطن.

مشروع التقسيم الذي يبدأ بإثارة النعرات العرقية والقبلية في مجموع الوطن العربي من المحيط إلى الخليج، هذا المشروع كما لا يخفى على أحد، خططت له القوى الاستعمارية بزعامة الولايات المتحدة وبمباركة الكنيسة والصهيونية العالمية، عملا بسياسة فرق تسد وإنهاك طاقات الأمة في الصراعات الإثنية والعرقية والقضاء على قدراتها ليسهل التحكم فيها من خلال زعامات ورقية صنعت في روما أو باريس أو لندن أو واشنطن أو تل أبيب.. وللموضوع عودة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *