الضرب على القفا لمن أنكر التأديب بالعصا (ج.3) بقلم لطيفة أسير

 

 

العصا ضرورة تربوية (تابع)

وقال محمد الأمين الشنقيطي في شرح زاد المستقنع: والشرع أذن للوالد أن يؤدب ولده، وأذن للسلطان أن يؤدب رعيته، وأذن للمعلم أن يؤدب من يعلمه، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر) فشرع الضرب في التعليم، والدعوة للخير، والأصل: أن العلم يراد به الدعوة للخير؛ يتعلم الإنسان ثم يعمل. فهذا الإذن الشرعي بالتأديب والتعليم، وأيضاً صيانة الناس والرعية، كل هذا إذا كان الأصل يقتضي جوازه فإن ما يترتب عليه من ضرر مغتفرٌ شرعاً؛ لأن الأصل أن من فعل هذه الأفعال يقصد بها مصلحة المجني عليه. (بحث بعنوان: «ضرب الأولاد وضوابطه من الكتاب والسنة وكلام الفقهاء والمحدثين وعلماء التربية»؛ علي هاني يوسف ).

وقد حثّ أبو الحسن علي القابسي في رسالته القيمة (الرسالة المفصلة لأحوال المتعلمين وأحكام المعلّمين والمتعلمين) على اللجوء قبل الضرب إلى « العذل والتقريع بالكلام الذي فيه التّواعُدُ من غير شتْمٍ ولا سبّ لعِرضٍ كقول من لا يعرف لأطفال المؤمنين حقّا فيقول: يا مَسْخ ! يا قرد ! فلا يفعل هذا ولا ما كان مثله في القبح، فإن قلتَ له واحدة فلْتستغفر الله، ولْتنْته عن معاودتها».

يقول خالد أحمد في تقديمه لهذه الرسالة: (يمجّ المربون المعاصرون العقوبة الفاضحة بالشّتم ومُبتذل الكلام، لأنها تجرح الشعور، وتتجاوز حدود الآداب، وتثير النّفس، وتزرع فيها كراهية المعلم لتجاوزاته اللفظية القبيحة. غير أن أبا الحسن القابسي لا يجهر بذلك وإنما يختار تعليلا آخر قيّما لرفض العقوبة الفاضحة، إذ يرى أن قبيح اللفظ لا يَفوه به المُربّي الورِع إلا إذا كان في حالة غَضبيّة أفقدته اتزانه. وقد تُفضي به تلك الحالة النّفسية إلى تسليط العقاب المادّي على ضحيته بدافع الانتقام وتصريف الطاقة الانفعالية المكبوتة، وهذه ملاحظة من صميم علم النّفس التربوي قبل ظهوره).

وهذا نصّ ما قاله القابسي عن استهجانه لتلفظ المربّي بكلمة قبيحة لزجر المتعلّم، وحثّه على ضرورة ضبط النّفس حالَ الغضب: (إنما تجري الألفاظ القبيحة من لسان التّقيّ إذا تمكّن الغضب من نفسه، وليس هذا مكان الغضب، وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقضي القاضي وهو غضبان، وأمر عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه بضرب إنسان، فلما أُقيم للضرب قال: أُتركوه، فقيل له في ذلك، فقال: وجدتُ في نفسي عليه غضبًا، فكرهتُ أن أضربه وأنا غضبان. قال أبو الحسن: كذا ينبغي لمعلم الأطفال أن يراعي منهم حتى يُخْلصَ أدبهم لمنافعهم).

فالتأديب – إذن – ضرورة تربوية لتقويم اعوجاج المتمردين وإيقاظ المهملين وتنبيه الغافلين، والتدرج فيه حتمية تربوية كذلك، كما كان التدرج سنة تشريعية في إرساء قواعد بعض الأحكام الشرعية، ولئن كانت النقولات التي سُقتها ترجّح كفة التأديب المعنوي والعقاب النفسي، فإنها لا تكاد تُلغي التأديب بأساليب زجرية أخرى وإن ضيّقت سُبل اللجوء إليها.

على أني أؤمن أن التأديب بالعصا كما يصلح لفئة دون أخرى كما أسلفت الذكر، فإنه كذلك يصلح لسنّ دون أخرى. فمثلا بالنسبة لي -كوني أستاذة بالسلك الثانوي الإعدادي- أجد أن تلاميذ السنة الأولى إعدادي، يناسبهم -أحيانًا- العقاب بالعصا، أكثر من تلاميذ السنة الثالثة أو تلاميذ السلك الثانوي التأهيلي، فصِغر سن الفئة الأولى، وعدم نضجها، وكثرة حركيتها، واستمرائها جو الطفولة اللامسؤولة، يجعل حتمية استعمال العصا، أمرا ضروريا، ولو بالتلويح بها والتخويف فقط. كما قيل في بعض الأمثال الشعبية العربية «هِزّ عصا العز ولا تضرب فِيا».

و بهذا المعنى قالت العرب قديمًا:

لا تضرباها واشهرا لها العصيّ

فرُبّ بَكرٍ ذي هبابٍ عجرفي

فيها وصهباءَ نسولٍ بالعَشيّ

أي أخيفاها -ويقصد الناقة- بِشهركما العصي لها ولا تضرباها.

و التلويح بالعصا للزجر والتخويف توجيه تربوي نبوي كما نصَّ على ذلك الحديث الشريف:

«علقوا السوط حيث يراه أهل البيت» (أخرجه أبو نعيم في الحلية 7/332، وهو في السلسلة الصحيحة برقم:1446).

وفي رواية أخرى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «علقوا السوط حيث يراه أهل البيت، فإنه أدب لهم» (أخرجه الطبراني:10/344-345، وهو في السلسلة الصحيحة برقم 1447)، فرؤية أداة العقاب، أو حتى الضرب بها على المنضدة يبعث الرهبة في نفوس الفئات المشاغبة، ويكون رادعا لها وإن لم تلامس العصا أيديهم !

 

ولنا في سلف الأمة القدوة والأسوة، فقد أجازوا التأديب بالعصا، وضرب المتعلمين عند الحاجة: كالإمام مالك والإمام أحمد والخلال والغزالي وابن شاس والنووي وابن تيمية ومحمد بن سحنون.

يقول ابن الحاج رحمه الله في «فصل: ما يأمر به المؤدِّب الصبي من الآداب»: «ومن تخلَّف -من التلاميذ عن واجبه- لغير ضرورة شرعية قابلهُ بما يليق به، فربَّ صبي يكفيه عبوسةُ وجْهِهِ عليه، وآخر لا يرتدع إلا بالكلام الغليظ والتهديد، وآخر لا ينـزجر إلا بالضرب والإهانة، كلٌّ على قدر حاله”. ا.هـ؛ نقله د. إبراهيم بن صالح بن إبراهيم التنم. في مقالة التأديب بالضرب (ضرب التلميذ).

وسئل الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- عن حكم ضرب الطالبات لغرض التعليم والحث على أداء الواجبات المطلوبة منهن لتعويدهن على عدم التهاون فيها؟

فأجاب:

(لا بأس في ذلك؛ فالمعلم والمعلمة والوالد كل منهم عليه أن يلاحظ الأولاد، وأن يؤدب من يستحق التأديب إذا قصَّر في واجبه حتى يعتاد الأخلاق الفاضلة وحتى يستقيم على ما ينبغي من العمل الصالح، ولهذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مروا أولادكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرِّقوا بينهم في المضاجع»، فالذَّكر يُضرب والأنثى كذلك إذا بلغ كل منهم العشر وقصَّر في الصلاة، ويؤدَّب حتى يستقيم على الصلاة، وهكذا الواجبات الأخرى في التعليم وشؤون البيت وغير ذلك، فالواجب على أولياء الصغار من الذكور والإناث أن يعتنوا بتوجيههم وتأديبهم لكن يكون الضرب خفيفاً لا خطر فيه ولكن يحصل به المقصود). «مجموع فتاوى الشيخ ابن باز» (6/403).

وإن كان بعض التربويين اليوم يعتبرون استعمال الضرب أسلوبا بدائيا في التعليم، وباعثا على خلق الضغينة بين طرفي العملية التعليمية (المعلم والمتعلم)، فإن البعض الآخر يعتبره أسلوبا تربويا، ومسلكا تأديبيا لا سبيل لتجاهله عند الضرورة، وقد نقل الدكتور إبراهيم بن صالح بن إبراهيم التنم في مقالة التأديب بالضرب (ضرب التلميذ) اعتراف (التربويين غير المسلمين بأهمية أسلوب العقاب في التربية، على اختلاف بينهم في تكييف صورة الضرب بالنسبة للذنب، وفي هذا ردٌّ على ادعاء مانعي الضرب على سبيل: ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا﴾، ومن أولئك المربين:

– الفيلسوف جان جوك روسو: «حيث يرى أن يكون العقاب أكثر من الجرم في حالة تعدي الطفل على الآخرين، وأن يتم العقاب بطريقة طبيعية بصفة عامة في حالات أخرى ما أمكن ذلك».

– الفيلسوف سبنسر: «حيث يرى أن يكون العقاب بقدر الذنب، وأن يكون على نمط العقاب الطبيعي».

– الفيلسوف برتراند راسل: «حيث يرى أن يكون العقاب المادي أقل من الذنب».

كما يقول بعضهم: «إن ضربة عصا جيدة يمكن أن يكون لها أثر طيب في إيقاظ عقل الولد وضميره، وعدم القيام بمثل ذلك التأديب في الحالات المزعجة، هو إهمال مؤذٍ للطفل والمجتمع») اهـ.

وأضاف في موضع آخر قائلا:

(ومما يدل على تهافت ادعاء مانعي الضرب: «أن بعض تلك النظريات بدأت تتراجع عن موقفها من ضرب التلاميذ حين ظهر التمرد والانحراف من التلاميذ، وقلَّ احترامهم لمعلميهم، وأخذ التكاسل طريقه إلى نفوسهم، وازدادت المشكلات السلوكية، وانتشرت مظاهر العدوان والتخريب، وأصبح كثير من المعلمين عاجزين عن ضبط النظام في الصف، وتدهور مستوى التعليم، وانخفضت إنتاجيته).

…يتبع

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *