حرية الفكر بين الإطلاق والتقييد د. البشير عصام

إن قضية الاستقلالية والحياد من أخطر القضايا التي تثار في المجتمعات العصرية، حيث الانتشار المعلوماتي الهائل، الذي يطرح إشكالية الحياد والإنصاف عند التحليل وجمع النظائر.

كما أن حرية الفكر والتعبير قضية محورية تهيمن منذ قرون على الفكر الغربي الحديث، الذي يراد له اليوم أن يؤطر الأفراد والمجتمعات والدول في المعمورة كلها، ولو على حساب الثقافات والحضارات المخالفة.

 

في معنى المصطلح

يراد بـ(حرية الفكر) عند الغربيين: (حق الأفراد في التفكير كما يشاؤون، وفي التعبير عن هذه الأفكار بكل الوسائل الممكنة، وفي ميادين الفكر جميعها).

ويظهر من هذا التعريف أمور، ينبغي التركيز عليها:

أولها:

أن حرية الفكر حق من حقوق الإنسان الفردية، كما تتصورها الحضارة الغربية الحديثة. وستأتي الإشارة إلى الأصل التاريخي لهذا الحق، وإلى اندراجه ضمن الحقوق والحريات المختلفة، كما تقررها المواثيق العصرية.

والثاني:

أن حرية الفكر مرتبطة بحرية التعبير، بينهما تلازم تام، بحيث يستحيل الكلام عمليا عن إحداهما دون التطرق للأخرى.

يقول (كانط): (صحيح أننا يمكن أن نقول: إن حرية الكلام أو الكتابة يمكن منعها من طرف سلطة عليا، بخلاف حرية التفكير. ولكن يا ترى: كيف تكون قوة الفكر وصحته، إذا لم نكن نستطيع التفكير داخل جماعة، نوصل إليهم أفكارنا، ونتلقى منهم أفكارهم؟ يمكننا القول إذن: إن هذه السلطة العليا التي تختلس من الناس حرية إيصال الأفكار في العلن، تننزع منهم كذلك حريتهم في التفكير!).

فليس المراد بحرية الفكر إذن: عملية التفكير الباطني المجردة عن حركة التعبير ونشر الأفكار.

ولذلك فإنني حين أتكلم في هذا المقال عن حرية الفكر، فإنني أقصد المعنى العام الذي يشمل حرية التعبير أيضا.

والثالث:

يمكن التعبير عن الأفكار بكل الوسائل الممكنة، فيدخل في حرية التعبير إذن: حرية الصحافة، والتظاهر، وتأسيس الأحزاب والجمعيات، ونحو ذلك.

والرابع:

تشمل حرية الفكر مجالات مختلفة ومتعددة، فتشمل السياسة والفلسفة والأخلاق والدين. ولذلك فإن حرية الفكر تقتضي أيضا حرية التدين!

 

لمحة تاريخية

يذكر كثير من الباحثين ومؤرخي الحضارة)[1](، أن نوعا من حرية الفكر والتعبير كان موجودا في بلاد اليونان، أيام نهضتها الحضارية والفكرية. ولكن قرون الظلام التي عاشتها أوروبا في ظل سطوة الكنيسة، وتحت نير محاكم التفتيش المدمرة، كانت كفيلة بمحو هذا المعنى من أذهان الأوروبيين، إلى أن أحيته ثلة من الفلاسفة المناوئين لسلطان الكنيسة، خلال ما يسمى ”عصر الأنوار”.

وقد أفضى تحريك المصطلح فكريا، إلى تبنيه على الواقع من طرف قادة الثورة الفرنسية، في النصف الثاني من سنة 1789م، في ما يسمى (إعلان حقوق الإنسان والمواطن))[2](، ثم انتشر خلال القرني التاليين في بلاد العالم الغربي، بعد معارك فكرية وسياسية طاحنة، مع بقايا الكنيسة، وأصناف المناوئين للحريات الفردية.

وفي سنة 1948م، وبعد سنوات الحرب التي زعزعت استقرار أوروبا والعالم، تبنى المجتمعون في باريس، ما سمي (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان)، الذي ينص على حرية الفكر في بنده التاسع عشر)[3](. وقد صار هذا الإعلان، المرجعية الفكرية للجمعيات الحقوقية في العالم، ولكثير من المصطدمين بالثوابت الدينية في بلادنا الإسلامية.

إن هذه اللمحة التاريخية، تبين بجلاء أهمية مبدأ الحرية عموما، وحرية الفكر والتعبير خصوصا، عند الغربيين. بل لا نبعد النجعة إن قلنا: لقد صارت الحرية والمساواة -على ما بينهما من احتمال التعارض)[4](– دين أوروبا الجديد، الذي قام على أنقاض النصرانية المحرفة، بقوة الحديد والنار، وبما لا يحصى من التضحيات الجسام.

ونتبين أيضا من خلال استقراء التاريخ، أن حقوق الإنسان -ومن ضمنها حرية الفكر- شيء وافد علينا من الغرب، ارتبط دخوله إلى بلاد الإسلام بالمرحلة الاستعمارية، التي فرضت على الأمة مجموعة من المفاهيم المباينة لثوابتها الدينية والحضارية.

فشتان إذن بين نظرتنا لحرية الفكر، وبين نظرة الغربيين لها!

 

حرية الفكر في ميزان الشرع

هذا من جهة التأثير التاريخي، أما من جهة الحكم الشرعي، فإن الحرية المطلقة للفكر لا يمكن أن تقبل في المرجعية الدينية الإسلامية، وإن ادعى بعض المسايرين للفكر الغربي خلاف ذلك.

المسلم حر، لا يجوز أن يسترق أفكارَه وتصوراته بشرٌ من المخلوقين. فلا يتبع المسلم بشرا مثله في كل قول وفعل، ولا يطيعه على غير بصيرة، ولا يقلده دينه من غير حجة ولا برهان. لا يستثنى من ذلك إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم..

نعم، لقد خلق الله الإنسان حراً، وركب فيه عقلا قادرا على التمييز بين الأفكار حقها وباطلها، وزرع فيه إرادة بها يختار أفعاله، وبسببها يقع عليه الحساب، في الدنيا والآخرة، دون أن يخرج في ذلك عن كمال علم الله تعالى وتقديره.

والمسلم حر، لا يجوز أن يسترق أفكارَه وتصوراته بشرٌ من المخلوقين. فلا يتبع المسلم بشرا مثله في كل قول وفعل، ولا يطيعه على غير بصيرة، ولا يقلده دينه من غير حجة ولا برهان. لا يستثنى من ذلك إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم، وطاعته إنما هي من طاعة الله تعالى.

فلا شك إذن أن الحرية بهذا المعنى من صميم دين الإسلام!

ولكن المسلم مقيد في أفعاله كلها -ومنها أفكاره وتعبيره عنها- بقيود ثقيلة من الشرع الحكيم. فإنه قبل التفكير وخلاله وبعده: عبدٌ لله سبحانه، لا يصح له إسلام إلا بتمام الخضوع والتسليم لله ولرسوله، وبكمال الانقياد للشريعة المشرفة. كما قال تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) (الأحزاب-36). فلا اختيار ولا حرية بعد تحقق قضاء الشرع، وإنما هو التسليم والإذعان، وإلا فلا إيمان!

ولا يشكل على هذا المعنى الواضح، المتفق على صحته: ما جاء في مثل قوله تعالى (لا إكراه في الدين) (البقرة-256)، مما يَفهم بعضُ الناس من ظاهره حريةَ التدين -وهي جزء من حرية الفكر كما هو معلوم-؛ وذلك لأن المراد من الآية: نفي إمكان الإجبار على العقيدة الباطنة، التي لا يعلمها إلا الله؛ أو المراد إمكان بقاء الكتابي على دينه، مع إعطاء الجزية، بحسب أحكام الشريعة؛ في أقوال أخرى ذكرها أهل التفسير (يراجع مثلا فتح القدير للشوكاني؛ وقد جعل القول الأول منها: أن الآية منسوخة، ثم قال: (وقد ذهب إلى هذا كثير من المفسرين)).

وفي الحالتين معا، فلا يراد بالآية إباحةُ حرية الفكر المطلقة (وقد ذكرنا آنفا أنها مرتبطة بحرية التعبير)، كيف والله تعالى يقول: (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه)، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها، وصلوا صلاتنا، واستقبلوا قبلتنا، وذبحوا ذبيحتنا، فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم، إلا بحقها وحسابهم على الله) (رواه البخاري)؟

ونقرر أيضا أنه ليس للمفكر أو الفنان أو الإعلامي حصانة خاصة، أو وضع متميز، يباح له بسببه ما يحرم على آحاد المكلفين. فهو مسلم قبل كل شيء، تسري عليه أحكام التكليف كما تسري على غيره.

فالشرع إذن حاكم على غيره، ولا يكون محكوما أبدا. والحرية تكون داخل إطار الشرع لا خارجه.

ليس للمفكر أو الفنان أو الإعلامي حصانة خاصة، أو وضع متميز، يباح له بسببه ما يحرم على آحاد المكلفين. فهو مسلم قبل كل شيء، تسري عليه أحكام التكليف كما تسري على غيره.

فأين هذا من المفهوم النظري السائد في الغرب عن حرية الفكر؟ (وإنما أقول: (النظري) لأن الحرية عندهم مقيدة بقيود كثيرة غير معلنة في الغالب).

لا شك أن البون شاسع بين المفهومين: مفهوم المفكر المنطلق المتحرر من كل قيد، ومفهوم المفكر المنضبط في إطار عقدي واضح المعالم.

ومع ذلك، وجدنا من ينسب إلى الإسلام -جهلا أو تدليسا- هذا المعنى الغربي الشنيع، فيقول أحدهم مثلا إن الدين: (قد كفل للإنسان أمرين عظيمين طالما حُرم منهما، وهما استقلال الإرادة، واستقلال الرأي والفكر))[5](. وقد قال بمثل هذا جماعة من العصريين، يقلد اللاحق في ذلك السابق، ويضيع الحق الصريح بينهما.

 

حرية الفكر في الواقع

ثم إن حرية الفكر المطلقة -فوق كونها مناقضة للشرع أشد المناقضة- مستحيلة التحقق في الواقع أيضا!

وهؤلاء الغربيون الذين يملأون مسامع الدنيا صراخا وعويلا حول حرية الفكر والتعبير، هم من أكثر الناس تقييدا لها، علم ذلك من علمه، وجهله من جهله!

وأول القيود عندهم وأعظمها قيد القانون.

ففي المادة 11 من إعلان حقوق الإنسان الفرنسي لسنة 1789: (إن حرية الإعراب عن الفكر والرأي أثمن حقوق الإنسان، ولكل مواطن الحق في حرية الكلام والكتابة والنشر، على أن يكون مسؤولا عن عمله في الحدود التي يعينها القانون) )[6](.

وفي المادة 29 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: (يخضع الفرد في ممارسة حقوقه وحرياته للقيود التي يعينها القانون) )[7](.

وهذه القوانين المؤطرة للحريات عموما، ولحرية الفكر خصوصا، أساسها عندهم منع الإضرار بالآخرين. كما يقول ”مل”: (الغرض الوحيد الذي تستخدم فيه السلطة بطريقة مشروعة ضد الفرد أو العضو في مجتمع متحدين أعني ضد إرادته: هو منع الفرد من الإضرار بالآخرين أو إيذاء غيره..) )[8](.

فأي فرق معتبر بين التقييد بالقانون والتقييد بالشرع الذي هو ”قانون” المسلمين -إن صح هذا التعبير-؟

ومهما يكن لديهم من مسوغات لتقييد الحرية بالقانون، فإنه يمكن إيجاد نظيرها -بل أفضل منها وأرسخ- في مطالبتنا بتقييد الحرية بالشرع الرباني الحكيم.

وإذا تجاوزنا القوانين المسطرة، وتأملنا واقع الممارسة العملية في الغرب، فإننا نندهش لحجم التقييد الفعلي الحاصل على حرية الفكر والتعبير، وإن ادعى القوم خلاف ذلك.

فادعاء الحياد المطلق في مجال الإعلام مثلا وهم عريض، لا وجود له على أرض الواقع. وكل من يدعي الحياد من الإعلاميين، لا بد أن يتأثر في رسالته الإعلامية بعقيدته ومجتمعه وثقافته ونحو ذلك)[9](.

وفي مجال الفن، لا يسمح للمبدعين في الغرب بقول كل شيء. وقد ظهر هذا المبدأ بجلاء تام في حادثة الممثل الهزلي الفرنسي (ديودوني) الذي حشر أنفه في عش الدبابير، حين انتقد السياسة الاستيطانية الإسرائيلية، فثارت عليه ثائرة رجال الإعلام والسياسة المتصهينين، ولا يزال المنع ساريا عليه!

ادعاء الحياد المطلق في مجال الإعلام مثلا وهم عريض، لا وجود له على أرض الواقع. وكل من يدعي الحياد من الإعلاميين، لا بد أن يتأثر في رسالته الإعلامية بعقيدته ومجتمعه وثقافته ونحو ذلك..

وفي مجال البحث العلمي أيضا، هنالك أبحاث تجر أصحابها إلى القضاء بدلا من منصات الاحتفاء الأكاديمي! ويمكن أن تذكر في هذا المجال أبحاث ثلة من المؤرخين المنكرين للإبادة النازية لليهود، أو المشككين فيها، مثل جارودي وفوريسون وراسينييه وإرفينج وغيرهم)[10](.

وبالجملة فإن عند الغربيين -إلى جانب القانون المعلن- قيودا كثيرا غير معلنة، هي عبارة عن ”طابوهات” لا يجوز التعرض لها، تحت طائلة الملاحقة الإعلامية، والتشويه الممنهج. بل يضاف إلى ذلك وجوب مراعاة ”الصحيح سياسيا” (Politically correct) عند التعبير على الأفكار المختلفة، مما يشكل ثقلا ثقافيا زائدا على حرية الفكر.

وفي ختام هذه النقطة، أحب التنبيه على أن من المتعين على المطالبين من بني جلدتنا بحرية الفكر المطلقة، أن يتأملوا واقع هذه الحرية في بلاد الغرب حيث نشأت الفكرة وترعرعت. وكما لهم قيودهم المعترف بها عندهم، فمن الواجب أن تكون لنا تقييداتنا الموافقة لثوابتنا الدينية والثقافية.

ويعجبني أن أنقل في ختام المقال قولَ العقاد -وهو من المنادين بحرية الفكر عموما-:

(إننا نريد أن نكون أحراراً في طلب الحرية لئلا نطلبها كما يطلبها العبيد المسخرون. فمن تلك الحرية التي نريدها أن نعرف حدود حرية الفكر نفسها. (..) ولسنا أحراراً حين تدور مع الأفكار الطارئة كما يدور طلاب الأزياء مع كل عارضة تروج وكل خاطرة تعنّ في الأذهان. فلنكن جريئين على الجديد جرأتنا على القديم، ولنتعود أن ننقد الحضارة الأوروبية كما ننقد ما سلف من حضارات طويت الآن..))[11](.

والله الموفق.

—————————

1- انظر على سبيل المثال:

Alain Bellemare, Genèse de la rationalité occidentale. De Thalès à Platon Gaëtan Morin Éditeur, 1997, chapitre 2.

وكذلك:

A History of Freedom of Though John Bagnell Bury – 2004 (Electronic book)

2- الثورة الفرنسية – حسن جلال: ص97

3-(مفهوم الحرية بين الإسلام والجاهلية) علي بن نايف الشحود (ص32). ونصه كما في الكتاب المذكور: (لكل شخص حق في حرية الفكر والوجدان والدين، ويشمل هذا الحق حريته في تغيير دينه، أو معتقده، وحريته في إظهار دينه، أو معتقده، بالتعبد وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم، بمفرده، أو مع جماعة، وأمام الملأ، أو على حدة).

4-حقيقة الليبرالية وموقف الإسلام منها لعبد الرحيم السلمي: ص143.

5-من كتاب: كيف تسللت الليبرالية إلى العالم الإسلامي – بسام البطوش (الموسوعة الشاملة).

 6-معجم الفلسفي: جميل صليبا – الجزء 1 / ص 462.

7-نفسه.

8-حقيقة الليبرالية وموقف الإسلام منها لعبد الرحيم السلمي: ص 130.

9-بل هو فوق كونه مستحيل التحقق: قد يكون جريمة أخلاقية، لأن التسوية بين الجلاد والضحية بدعوى الحياد والمهنية، جريمة في الشرائع والأعراف كلها.

10-راجع كتاب (الصهيونية والنازية ونهاية التاريخ) للدكتور عبد الوهاب المسيري رحمه الله- ص96 وما بعدها.

11-ساعات بين الكتب -دار نهضة مصر- ص116.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *