الخطاب الشرعي ومقاصد الشريعة د.إبراهيم لسكران

من الاعتبارات التي دفعت الشاطبي للتمسك بـ”مرجعية السلف” في فهم النصوص إيقاف دائرة التأويل الباطل للنصوص وتضييقها، كما يقول الشاطبي:

(لا تجد فرقة من الفرق الضالة، ولا أحداً من المختلفين في الأحكام، لا الفروعية ولا الأصولية؛ يعجز عن الاستدلال على مذهبه بظواهر من الأدلة، بل قد شاهدنا ورأينا من الفساق من يستدل على مسائل الفسق بأدلة ينسبها إلى الشريعة المنزهة، وفي كتب التواريخ والأخبار من ذلك أطراف ما أشنعها في الافتئات على الشريعة، فلهذا كله يجب على كل ناظر في الدليل الشرعي مراعاة ما فهم منه الأولون) [3/289].

ويظن هؤلاء أن المقاصد والشاطبي ستحرر الناس من “سلطة الشيخ” التي كبلت المسلمين كما يقولون، بينما الشاطبي/المقاصدي يتوسع كثيراً في تأسيس سلطة علماء الشريعة بما لا يوجد عند غيره من علماء المسلمين أصلاً، حتى أنه جعل العالم في الأمة يقوم مقام النبي صلى الله عليه وسلم فيهم، كما يقول:

(المسألة الأولى: المفتي قائم في الأمة مقام النبي صلى الله عليه وسلم) [5/253].

ثم ذكر الأدلة الشرعية من آيات وأحاديث على ذلك.

بل واعتبر المفتي يقوم بدور تشريعي ولذلك يجب التسليم له كما يقول:

(المفتي شارع من وجه، لأن ما يبلغه من الشريعة؛ إما منقول عن صاحبها، وإما مستنبط من المنقول؛ فالأول: يكون فيه مبلغاً، والثاني: يكون فيه قائماً مقامه في إنشاء الأحكام، وإنشاء الأحكام إنما هو للشارع، فإذا كان للمجتهد إنشاء الأحكام بحسب نظره واجتهاده؛ فهو من هذا الوجه شارع واجب اتباعه والعمل على وفق ما قاله، وهذه هي الخلافة على التحقيق) [5/255].

وفي ختام هذا الفصل الذي كرسه لـ”مرجعية علماء الشريعة” ختمه بهذه الخلاصة:

(وعلى الجملة: فالمفتي مخبر عن الله كالنبي، وموقِّع للشريعة على أفعال المكلفين بحسب نظره كالنبي، ونافذ أمره في الأمة بمنشور الخلافة كالنبي، ولذلك سموا أولى الأمر، وقرنت طاعتهم بطاعة الله ورسوله) [5/257].

بل إنه نهى عن “الاعتراض على العلماء” ووضع لذلك فصلاً مستقلاً فقال:

(المسألة الثالثة: ترك الاعتراض على الكبراء محمود، سواءً كان المعترَض فيه مما يُفهم أو لا يُفهم)[5/393].

ثم ساق منظومة من الآيات والأحاديث للاستدلال على هذه القاعدة ثم قال:

(فالذي تلخص من هذا أن العالم المعلوم بالأمانة والصدق، والجري على سنن أهل الفضل والدين والورع، إذا سئل عن نازلة فأجاب، أو عرضت له حالة يبعد العهد بمثلها، أو لا تقع من فهم السامع موقعها؛ أن لا يواجَه بالاعتراض والنقد، فإن عرض إشكال فالتوقف أولى بالنجاح) [5/400].

ويظن هؤلاء بربط في غاية الغرابة أن “الشاطبي امتداد لابن رشد“، ويضعونهما في منظومة تشريعية وفلسفية واحدة، ويقول بعضهم أن منهج الشاطبي في “أصول الفقه” هو العمل المكمل لمنهج ابن رشد في “الفلسفة”، وأنهما يشكلان منظومة تشريعية جديدة، وهذا الكلام عكس الواقع  تماماً، فالشاطبي مارس قطيعة مع ابن رشد وليس امتداداً له، وفكرة أنه امتداد له لا يقولها من قرأ الموافقات فعلاً، فالشاطبي لديه موقف حاسم في رفض طريقة ابن رشد، وكان الشاطبي يحتج في مناهضة طريقة ابن رشد بمنهج السلف، ومن ذلك قول الشاطبي:

(وزعم ابن رشد الحكيم في كتابه الذي سماه بـ”فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال” أن علوم الفلسفة مطلوبة؛ إذ لا يفهم المقصود من الشريعة على الحقيقة إلا بها، ولو قال قائل “إن الأمر بالضد مما قال” لما بعد في المعارضة، وشاهد ما بين الخصمين شأن السلف الصالح في تلك العلوم، هل كانوا آخذين فيها، أم كانوا تاركين لها أو غافلين عنها؟ مع القطع بتحققهم بفهم القرآن، يشهد لهم بذلك النبي صلى الله عليه وسلم والجم الغفير؛ فلينظر امرؤ أين يضع قدمه) [4/198].

بل اعتبر أن البحث الفلسفي لا يزيد المرء إلا خبالاً كما يقول:

(ونشأت مباحث لا عهد للعرب بها وهم المخاطبون أولاً بالشريعة؛ فخالطوا الفلاسفة في أنظارهم، وباحثوهم في مطالبهم التي لا يعود الجهل بها على الدين بفساد، ولا يزيد البحث فيها إلا خبالاً) [5/404].

واعتبر الشاطبي أن البحوث النظرية إنما هي طريقة الفلاسفة المخالفة لطريقة المسلمين كلهم، كما يقول:

(تتبع النظر في كل شيء، وتطلب علمه؛ من شأن الفلاسفة الذين يتبرأ المسلمون منهم، ولم يكونوا كذلك إلا بتعلقهم بما يُخالف السنة؛ فاتباعهم في نحلةٍ هذا شأنُها خطأ عظيم، وانحراف عن الجادَّة.) [1/54].

بل اعتبر الشاطبي أن كل العلوم النظرية التي لا ينبني عليها ثمرة تكليفية أنها سبب للفتنة كما يقول: (فإن عامة المشتغلين بالعلوم التي لا تتعلق بها ثمرة تكليفية تدخل عليهم فيها الفتنة والخروج عن الصراط المستقيم) [1/53].

ولذلك ذم علم المنطق وقرر أنه لا حاجة له أصلاً في فهم الشريعة، كما يقول الشاطبي في عبارات كثيرة هذا بعضها: (لا احتياج إلى ضوابط المنطق في تحصيل المراد في المطالب الشرعية) [5/421].

(التزام الاصطلاحات المنطقية والطرائق المستعملة فيها مبعد عن الوصول إلى المطلوب في الأكثر؛ لأن الشريعة لم توضع إلا على شرط الأمية) [5/418].

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *