حضارة ثمود في القرآن الكريم (الحلقة الثّالثة) د: عمر خويا

  • الفساد في حضارة ثمود:

مقدّمة:

ذمّ الله تعالى الفساد وحرّمه ﴿وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ (القصص:77) ﴿وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا﴾ (الأعراف:56)، وحذّر المفسدين في الأرض بعواقب وخيمة إن هم تمادوا ولم يقلعوا ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ  فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾ (الأنعام:42-44).

ويقترن الفساد عادة بالتّرف والغنى، حيث يتوهّم المترف أنّه استغنى، فينسى أنّ الذي حباه ما هو فيه من نعمة هو ربّ أمره بالانضباط لشرعه في ما آتاه، والغاية هي الحفاظ على النّظام وتحقيق الغاية من الوجود وهي العبادة والإعمار، وهي في مصلحته ومصلحة الجميع. ونموذج تلبّس الفساد بالتحضّر: حضارة ثمود التي دبّ فيها سوس الفساد باكرا فبانت علاماته.

 

– بواكير الفساد في حضارة ثمود:

  • كفران النّعمة: لا تخفى النّعم الفضلى التي أنعم الله بها على ثمود حتى سادت الدّعة وحلّ الرّخاء. لكن بدل أن يشكروها ويؤدّوا حقّها ويستعملوها في طاعة الله تعالى كفروها، فذكّرهم ربّهم في قوله: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ﴾ (الأعراف:74)، والتّذكّر يُتحصّل بإعمال العقل والنّظر في عواقب الأمور، وهم قد ملكت عليهم شهواتهم وغرائزهم أنفسهم فغاب عنهم داعي التّبصّر والتّعقّل، فأنكر عليهم الله عزّ وجلّ اعتقاد خلود تلك النّعم ودوامها مع بقائهم على حال الجحود والكفران، قال تعالى: ﴿أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ﴾ (الشّعراء:146-149).
  • الظّلم والإفساد: طبيعيّ أن يكون تحكيم الأهواء مفضيا إلى الفساد والظّلم والطّغيان، وشيوع الفساد لا يستلزم صدوره من الكلّ، بل يكفي أن يكون أئمّة المجتمع المطاعون مفسدين وإن كانوا قليلين، ويدلّ على إفسادهم قوله تعالى بعد تذكيرهم بالنّعم: ﴿وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ (الأعراف:74) والإفساد لفظ مطلق هنا يحصل بتصيير المصالح مفاسدا بسبب الجور وغمط النّاس حقوقهم.

وذِكرُ المحلّ الذي أفسدوا فيه، وهو الأرض التي استُعمروا فيها، جاء لتفظيع إفسادهم بأنّه مبثوث في هذه الأرض، لأنّ وقوعه في رقعة منها تشويه لمجموعها بما تحتويها من ناس وحيوان ونبات وسائر الأنظمة والنّواميس[1]. ويدلّ قوله تعالى على لسان نبيّه صالح عليه السّلام: ﴿وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ﴾ (الشعراء:151-152) على أنّ مصدر الإفساد هو أعيانهم، فهم عادة ما يأتمرون بأوامرهم فينفثون فيهم سمومهم فينتشر فيهم الفساد بطاعتهم.

  • الاستكبار والتّكذيب: ونطقت الآية الكريمة بأنّ الاستكبار تأصّل فيهم حتى تحوّل إلى سلوك: ﴿قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ (الأعراف:75-77).

ومضت سنّة الله تعالى بأن تسبق طائفة من الفقراء المستضعفين، ذوي العقل الرشيد والإرادة الصّلبة، إلى إجابة دعوة الرّسل إلى الصّلاح والإصلاح لأنّه لا ينقل عليهم أن يكونوا تبعا لغيرهم، وأن يكفر به أكابر القوم وأغنياءهم المترفون ويتكبّروا، لأنّه يشقّ عليهم أن يخضعوا للأوامر والنّواهي التي تحرّم عليهم الإسراف وتوقف شهواتهم عند حدود الحقّ والاعتدال، وعلى هذه السّنّة جرى الملأ من قوم صالح[2]، فقد حاولوا اختبار تصلّب الذين آمنوا من المستضعفين لعلهم يتمكّنوا من إسقاط دعوة صالح بتركه وحيدا في مواجهتهم فلم يفلحوا، وكان من الطّبيعيّ أن يقودهم الاستكبار إلى التّكذيب ﴿وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ﴾(الحجر:80) ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ﴾ (الشّعراء:141).

  • التّقليد: عندما تطغى الشّهوات وتعمى البصيرة وينطمس نور العقل، يصبح تقليد الآباء عن غير بيّنة ولا هدى مستساغا، بل والتّعصّب له مطلوبا لأنّه يحفظ مصالح المفسدين المترفين الضيّقة، فيحملون المستضعفين على اتّباعهم طوعا أو كرها؛ فهم في الغيّ سواء، وهذا حال ثمود الموصوف في قوله تعالى: ﴿قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ﴾(هود:62).

 ————————————

[1] – محمد الطاهر بن عاشور. التحرير والتّنوير، تونس: دار سحنون، ج1، ص285.

[2] – محمّد رشيد رضا. تفسير المنار، الهيئة المصرية العامّة للكتاب، 1990م، ج8، ص448.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *