المذهب المالكي بين الالتزام به والتطاول عليه إلياس العثماني

إن من أجَلِّ نعم الله عز وجل على عباده المؤمنين أن جعل من بينهم أئمة مهديين وعلماء عاملين يُبَصِّرون الناس بأمور دينهم ويوضحون لهم سبيل الوصول إلى مرضاة ربهم بالحجة والبرهان مع الحكمة والبصيرة والإحسان.

وكان من نعم الله تعالى على أهل المائة الثانية أن جعل فيهم أمة من العلماء النحارير الذين متحوا من معين السنة النبوية العذبِ الزلال.
فصارواْ على ذلك النهج من غير عوج ولا اختلال، وكان من بين هؤلاء الأئمة الفحول إمام دار الهجرة ووارث علم الصحابة والتابعين، نعم إنه الإمام مالك بن أنس الأصبحي (93/179هـ) رحمه الله تعالى ورضي عنه، هذا الإمام الذي تغني شهرته عن التعريف به ويكفي ذكر اسمه عن وصف شخصه، فهو مجمع على إمامته ودينه وتقواه ووقوفه مع السنة، وقد أورد القاضي عياض في “المدارك” من ثناء الأئمة عليه علما ودينا ومكانة وجلالة مالا مزيد عليه، وكذا السيوطي في “تزيين الممالك بمناقب مالك”، وقال ابن مهدي: “ما بقي على وجه الأرض آمن على حديث رسول الله من مالك”، ولست الآن بصدد تعداد مناقبه رحمه الله، ولكن قصدي الحديث عن مذهبه كما هو مسطر في عنوان المقال.
المغرب ومذهب الإمام مالك
ومن المعلوم عند أرباب التاريخ أن المذهب المالكي دخل إلى القطر المغربي واستقر فيه منذ أيام الأدارسة إلى عصرنا هذا، قال الناصري في الاستقصا 1/194: “والمعروف أن مذهب مالك ظهر أولا بالأندلس ثم انتقل منها إلى المغرب الأقصى أيام الأدارسة” ، ومنذ ذلك الحين والمغاربة عاكفون على هذا المذهب، متفانون في التنظير له والدفاع عنه، فوحدوه ولم يشركوا به شيئا، حتى أصبح لفظ المغرب والمالكي متلازمين لا يذكر أحدهما إلا ويذكر الآخر، وهذا في الجملة أمر حسن جميل.
ولاشك أن المذهب المالكي مذهب مبارك ميمون شهد له بذلك الأئمة الأعلام من أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث قال: “مذهب أهل المدينة النبوية دار السنة.. مذهبهم في زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم أصح مذاهب أهل المدائن الإسلامية شرقا وغربا في الأصول والفروع” الفتاوى20/294.
ونحن إذ نقر بهذا ونلتزم بمذهب الإمام مالك في هذا البلد لا يعني أننا نجمد على آراءه ونتعصب لها، كلا، ولكننا نأخذ من مذهبه ما وافق الدليل – وما أكثره- وأما ما خالفه فنرده امتثالا لقول الامام مالك نفسه: “كل يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر ويشير إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم”، وقد أخذ بعضهم هذا المعنى ونظمه بقوله:
ومالك إمام دار الهجرة قال وقد أشار نحو الحجرة
كل كلام منه ذو قبول ومنه مردود سوى الرسول
إذاً فالتزام المذهب المالكي أمر مرضي مرغوب فيه إذا خلا من التعصب والمخالفة للدليل.
هل المغرب ملتزم بالمذهب المالكي حقا؟
وهنا نتساءل: هل المغرب ملتزم بالمذهب المالكي حقا؟ أو أن هذا الالتزام مجرد دعاوي وأقاويل ليس لها في واقع الناس وجود؟
نوجه هذه التساؤلات إلى وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، نقول للمسؤولين: معشرالسادة أنتم تنادون بضرورة الوحدة المذهبية وبالالتزام بالمذهب المالكي وعدم الخروج عنه، نعم هذا أمر جميل نشاطركم الرأي فيه، لكن تعالواْ بنا نتحاكم إلى الواقع وننظر هل لما تنادون به وجود في أرض الواقع أم أن الأمر على خلاف ذلك؟
– فلننظر إلى مكتباتنا ومدى عنايتكم بكتب المذهب المالكي تحقيقاً ونشراً، فهذا “مختصر الشيخ خليل” رحمه الله الذي يُعدُّ عمدة المذهب في الفتوى والقضاء، وهو الركن الشديد الذي يأرز إليه أرباب المذهب عند الاستدلال، هل هناك نسخة من هذا الكتاب طبعتها الوزارة؟ طبعا لا، إلا ما كان من “دار الفكر” التي تفضلت وطبعته في حلة جديدة تسر الناظرين، أما شروحه فجلها مطبوعة في لبنان إما في “دار الكتب العلمية” أو “دار الفكر” وليس هناك ولو نسخة واحدة تفضلت الوزارة وطبعتها، مما يدل على حقيقة اهتمامها بالمذهب المالكي!!
وهذا كتاب “التمهيد” للحافظ ابن عبد البر، أسوأ طبعة له هي التي طبعتها وزارتكم -مع الأسف-، ولو لا أن منّ الله عليه وسخر له أحد الغُيُر الذي قام بترتيبه وأعاد طبعه -وللمفارقة فهذا الشيخ الغيور مافتئ يُنبَز بكونه وهابيا مستوردا للفقه الحنبلي-، وكذلك كتاب “الاستذكار” طبعته “دار الغرب الإسلامي”، وكذا “الموطأ” وشروحه “كالقبس” لابن العربي و”المنتقي” للباجي وشرح الزرقاني عليه، طبعواْ في خارج المغرب، وهذان كتابا “الاعتصام” و”الموافقات” للإمام الشاطبي حققهما شيخ “أردني” وطبعا أيضا بالمشرق.. وإلى هلم جراً من المصنفات النفيسة التي يرجع إليها الفحول من العلماء دراسة ونقلا، ثم بعد هذا كله تحذرون الناس من كتب الحنابلة الذين خدموا مذهبهم بما لا مزيد عليه، في حين أهملتم أنتم مذهبكم، فلا تلوموا الناس ولوموا أنفسكم.
ثم لننظر إلى القرويين هذا المعهد الأعظم في شمال إفريقيا للعلوم العربية والدينية، ننظر إلى علمائه ومدى تأثيرهم في المجتمع ومدى تعلق المواطنين بهم، وهل إذا احتاج المواطن المغربي إلى فتوى في نازلة نزلت به هل يلجأ إلى علماء بلده؟ أم أنه يرفع سماعة الهاتف ويتجشم عناء الاتصال ليسأل عالما من علماء المشرق، والسبب يعرفه الجميع..
ثم لننظر إلى موقع الوزارة الرسمي، على ماذا يحتوي وكيف صُمِّم، وأنا لا أشك في أن ما من أحد يلج هذا الموقع إلا ويرتد إليه بصره خاسئا وهو حسير، لما يراه من سوء العرض للمواد العلمية -إن وجدت فيه- ومن صعوبة التعامل مع الموقع، الذي كان من المفروض أن يخرج في مظهر جميل يجلب الناس إليه، ولكن.
الالتزام بالمذهب المالكي والواقع المغربي
ثم لننظر إلى شوارعنا! فالتبرج ومشتقاته أصبح أمراً عاديا، فكون المرأة تخرج شبه عارية أمر عادي، ومعلوم أن التبرج محرم في المذهب المالكي، فقد روى الإمام مالك في الموطأ عن أبي هريرة موقوفاً ووصله مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “صنفان من أهل النار لم أرهما.. نساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام”، قال بن أبي زيد القيرواني في الرسالة: “ولا يلبس النساء من الرقيق ما يصفهن إذا خرجن” ولا أحتاج أن أقول لكم انظروا إلى شواطئنا فاللبيب تكفيه الإشارة..
ثم لننظر إلى تلكم الحانات والمراقص الليلية التي تعج بها الشوارع المغربية، وما يقع فيها من الفسوق والعصيان، أضف إلى ذلك ما يشرب فيها من الخمور بشتى أنواعها، والخمر محرم في المذهب المالكي شربه وبيعه، أخرج مالك في الموطأ عن ابن وعلة المصري أنه سأل عبد الله بن عباس عما يعصر من العنب فقال له ابن عباس: “أهدى رجل لرسول الله راوية خمر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أما علمت أن الله حرمها”، قال: لا، فسارّه رجل إلى جنبه فقال له صلى الله عليه وسلم: “بم ساررته” فقال: أمرته أن يبيعها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:” إن الذي حرم شربها حرم بيعها” ففتح الرجل المزادتين حتى ذهب ما فيهما، والحديث عند مسلم أيضا.
ولننظر إلى مؤسساتنا المالية حيث الربا مرغب فيه ومباح لمن أراد الربح السريع، وإياك أن تقول إن الربا حرام، فستوصف بالمتخلف والرجعي والظلامي، ولكن يا معشر المالكية الربا حرام في مذهبكم، ففي موطأ إمامنا مالك بعد أن ساق الأحاديث التي تتحدث عن الربا قال رحمه الله: “والأمر المكروه الذي لا اختلاف فيه عندنا أن يكون للرجل على الرجل الدين إلى أجل، فيضع عنه الطالب، ويعجّله المطلوب، وذلك عندنا بمنزلة الذي يؤخر دينه بعد محله ويزيده الغريم في حقه، فهذا الربا بعينه لا شك فيه، )كتاب البيوع ما جاء في الربا ففي الدين).
ولننظر إلى أعراسنا وحفلاتنا وما يقع فيها من منكرات وويلات، ومن أعظمها الغناء بجميع ألوانه وأشكاله، ومذهب المالكية يحرم الغناء، فقد قال مالك وقد سئل عن الغناء: “إنما يفعله عندنا الفساق”، وقال ابن القاسم: “كان مالك يكره الدفاف والمعازف كلها في العرس”) المدونة (3/398 وما أكثر النقول في ذلك..
ولننظر إلى مقابرنا وما يقع فيها من الشركيات، بله البناء عليها وتجصيصها وتزيينها حتى إن الداخل إليها ينسى هل هو في مقبرة أم في مجمّع سكني، وقد قال ابن أبي زيد في الرسالة )ص: (95: “ويكره البناء على القبور وتجصيصها”، قلت: كما في حديث جابر رضي الله عنه قال: “نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبور، وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه” رواه مسلم وغيره.
ولا تزال القائمة طويلة ولكن نرجو الإجابة عمّا سلف..
وبعد هذا كله كأني بقائل يقول: يا أخي إن الالتزام بالمذهب المالكي إنما هو على مستوى المساجد وأماكن العبادة، أما في باقي الأماكن والمرافق فلا بأس باللامذهبية وبالمخالفة فالأمر فيه سعة!! وإن كنت في الشارع أو في البيت أو في الشاطئ أو في الأماكن العمومية فلا بأس باعتناق المذهب العلماني/اللاديني..
وعودا على بدء نعيد السؤال: هل المغرب مالكي حقا؟ أم أن ذلك مجرد دعاوي وشعارات تردد على المنابر وتسطر بالمحابر؟ !
ونحن من هنا ننادي بوجوب التزام المذهب المالكي في جميع مناحي الحياة، في مساجدنا وفي معاملاتنا، في شوارعنا وفي إداراتنا ومقابرنا، ونناشد المسؤولين بأن يتصدوا لظاهرة التبرج الفاحش ولمن يدعو إليه، ويمنعوا شرب الخمر المستشري باليل والنهار، ويحذروا المسلمين من الشركيات التي تقع في المواسم والمقابر، ويعتنوا بمذهبهم ويلتزموه حقيقة فهو مذهب ميمون إذ مبناه على الكتاب والسنة اللذين بهما النجاة والعصمة فهما المحجة البيضاء الواضحة والطريقة المسلوكة السابلة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *