يحث الإسلام على العلم وإعمال العقل، والعلم قد يكون فرض عين، وهو علم ما تصح به عقيدة الإنسان وعبادته ومعاملته، والشبهات إنما تدخل على الإنسان من جهة قلة علمه، ونظره في شبهات المنحرفين قبل أن يتأهل لردها.
قال ابن القيم رحمه الله: “وقوله –أي: علي بن أبي طالب رضي الله عنه” ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة”: هذا لضعف علمه، وقلة بصيرته، إذا وردت على قلبه أدنى شبهة: قدحت فيه الشك والريب.
بخلاف الراسخ في العلم لو وردت عليه من الشبَه بعدد أمواج البحر ما أزالت يقينه، ولا قدحت فيه شكّاً لأنه قد رسخ في العلم، فلا تستفزه الشبهات، بل إذا وردت عليه: ردها حَرَسُ العلم، وجيشه، مغلولةً، مغلوبةً.
والشبهة وارد يرد على القلب يحول بينه وبين انكشاف الحق له، فمتى باشر القلب حقيقة العلم: لم تؤثر تلك الشبهة فيه، بل يقوى علمه ويقينه بردها ومعرفة بطلانها.
ومتى لم يباشر حقيقة العلم بالحق قلبه: قدحت فيه الشك بأول وهلة، فإن تداركها وإلا تتابعت على قلبه أمثالها حتى يصير شاكّاً مرتاباً.
والقلب يتوارده جيشان من الباطل: جيش شهوات الغي، وجيش شبهات الباطل، فأيما قلب صغا إليها، وركن إليها: تشرَّبها، وامتلأ بها، فينضح لسانه وجوارحه بموجبها، فإن أُشرب شبهات الباطل، تفجرت على لسانه الشكوك والشبهات والإيرادات، فيظن الجاهل أن ذلك لسعة علمه، وإنما ذلك من عدم علمه ويقينه.
وقال لي شيخ الاسلام رضي الله عنه -أي: ابن تيمية- وقد جعلت أُورد عليه إيراداً بعد إيراد-:
لا تجعل قلبَك للإيرادات والشبهات مثل السفنجة، فيتشربها، فلا ينضح إلا بها؛ ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة، تمر الشبهات بظاهرها، ولا تستقر فيها، فيراها بصفائه، ويدفعها بصلابته، وإلا فإذا أشربت قلبك كل شبهة تمر عليها: صار مقرّاً للشبهات، أو كما قال.
فما أعلم أني انتفعت بوصية في دفع الشبهات كانتفاعي بذلك.
وإنما سميت الشبهة شبهة لاشتباه الحق بالباطل فيها؛ فإنها تلبس ثوب الحق على جسم الباطل، وأكثر الناس أصحاب حُسن ظاهر، فينظر الناظر فيما ألبسته من اللباس: فيعتقد صحتها، وأما صاحب العلم واليقين: فإنه لا يغتر بذلك، بل يجاوز نظره إلى باطنها، وما تحت لباسها، فينكشف له حقيقتها.
ومثال هذا: الدرهم الزائف، فإنه يغتر به الجاهل بالنقد، نظراً إلى ما عليه من لباس الفضة، والناقد البصير يجاوز نظره إلى ما وراء ذلك، فيطَّلع على زيفه”. انتهى من “مفتاح دار السعادة” (1/139-140).
والمؤمن قد يشكل عليه أمر أو أمور، فيعالج ذلك بسؤال أهل العلم، كما قال تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) النحل/43.
وكما سأل الصحابة نبيهم صلى الله عليه وسلم لما أشكل عليهم شيء من أمر القدر، والدجال، وغير ذلك، وكان سؤالهم عن العمل، ماذا يعملون إذا كانت الأمور مقدرة، وماذا يعملون في زمن الدجال إذا كان يوم فيه بسنة، وهذا شأن العاقل، ينصب اهتمامه على العمل الذي هو سبب نجاته ودخوله الجنة.
وقد روى أحمد وأبو داود والترمذي: “أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ).. الْآيَةَ فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْهَا؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ وَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً فَقَالَ خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَعْمَلُونَ، ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً، فَقَالَ خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلنَّارِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ) فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَفِيمَ الْعَمَلُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلْجَنَّةِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيُدْخِلَهُ بِهِ الْجَنَّةَ، وَإِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلنَّارِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ فَيُدْخِلَهُ بِهِ النَّارَ)”.
وقضية أن الإنسان مخير أو مسيّر، قد بينها العلماء، وبيناها في أجوبة عدة، وذكرنا أن الإنسان مخير من جهة، ومسير من جهة، مخيّر من جهة أنه يفعل بإرادته وقدرته، ولا يشعر أن أحدا يجبره على فعل شيء، ومسير من جهة أنه مهما عمل فإن الله قد علم وكتب ما سيعمله.
وإذا كان مدار النجاة على العمل، والإنسان يفعله باختياره، والمكتوب في القدر السابق غير معلوم له، فما عليه إلا أن يجتهد، ويسأل ربه أن يكون من أهل السعادة الذين يوفقون لعمل لأهل السعادة.
ولا عجب في أن يكون الرب الخالق عالما بما سيفعله المخلوق، فهذا مقتضى كونه ربا خالقا عالما، وهو سبحانه غني عن خلقه، لا يظلمهم، بل هو أرحم بهم من أنفسهم، فكيف يوسوس العبد في هذا، ويظن بربه ظن السوء؟!
فليطمئن قلب المؤمن، ولتهدأ نفسه، وليتأمل في رحمة الله وكرمه وعطاءاته لعباده، لتحب الله، ويشتاق للقائه، وليكون همه كيف يصل إلى الدرجات العلا من الجنة، لا مجرد إزاحة الشبهات وإثبات صحة الدين!