وليعفوا وليصفحوا طارق برغاني

المسلم إنسان يتخلق بأخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم، ويتمثل ما جاءت به آيات القرآن الكريم من فضائل ومكارم، ومن بين أعلى هذه الأخلاق مرتبة وأسماها درجة، خلق العفو عند المقدرة، هذا الخلق الذي لا يتصف به إلا من آتاه الله تعالى قلبا حليما وصدرا واسعا ونفسا طيبة، لا يعرف لها الحقد مدخلا ولا يجد لها الانتقام منفذا، يقول الله تعالى: “إن تُبْدُوا خَيْرًا أَو تُخْفُوهُ أَو تَعْفُوا عَن سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا” النساء:149.
ومثلنا الأعلى في ذلك الله عز وجل إذ من صفاته العفو، ومن لم يعتقد بوجوب صفات الله تعالى والاهتداء بها في حياته وسلوكاته فهو أبعد ما يكون عن الإسلام والالتزام بتعاليمه، وقدوتنا في التحلي بهذه الصفة الحميدة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في مواقفه العظيمة في الصفح، والتي لم يبلغ درجتها أحد من البشر على مرِّ التاريخ.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “ثَلاثٌ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنْ كُنْتُ لَحَالِفًا عَلَيْهِنَّ: لا يَنْقُصُ مَالٌ مِنْ صَدَقَةٍ، فَتَصَدَّقُوا، وَلا يَعْفُو عَبْدٌ عَنْ مَظْلَمَةٍ يَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى، إِلا رَفَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا عِزًّا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلا يَفْتَحُ عَبْدٌ عَلَيْهِ بَابَ مَسْأَلَةٍ، إِلا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ” رواه أحمد؛ وانظر: نيل الأوطار للشوكاني: 7/177.
وخلق العفو كله خير وثوابه عظيم عند الله تعالى، فقد أعد الله تعالى للعافين عن الناس جنة عرضها السماوات والأرض، ومنحهم الله تعالى في الدنيا وسام المتقين وقلادة أهل الإحسان، بل أكثر من ذلك كله فقد أفاض الله تعالى عليهم محبته الخاصة من بين كثير من الناس، فأي فضل أعظم من هذا الفضل؟ وأي استحقاق أجدر من هذا الاستحقاق؟ يقول الله تعالى: “وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ” آل عمران:133-134.
وقد دعانا الله تبارك وتعالى إلى التحلي بخلق العفو مع الأقارب والضعفاء والمساكين، والصبر على مسألتهم وتحمل متاعبهم، يقول الله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ۚ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ” التغابن:14، كما وجهنا سبحانه إلى أن رجاء العبد لعفو الله تعالى ومغفرته لا يتأتى إلا بعد تحقيق العبد لهذا الخلق والتزامه به مع الخَلق في الدنيا، فالجزاء من جنس العمل، ومن أحب مغفرة الله تعالى لم يبخل بعفوه على العباد، يقول الله تعالى: “وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ” النور: 22
فلا يعقل من عبد بلغ من قسوة القلب ما يمنعه من العفو عند المقدرة، والإصرار على الانتقام ورد السيئة بالسيئة، رغم اعتراف المخطئ في حقه بخطئه والتماسه العفو، أن ينتظر عفوا ومغفرة من الخالق الذي حث على الصفح وأمر بالحلم، يقول الله عز وجل: “وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ” الشورى: 37. ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ وما لا يُعْطِي عَلى مَا سِواهُ” مسلم: 2593.
والعفو يقتضي أحيانا شيئا من الصبر والتحمل ومجاهدة النفس على الرد بالسيئة، وهذا الأمر لا يُدرك بيُسر ولا يُنال بسهولة، فلابد من تدريب النفس وحملها على الصبر على الأذى، وكبح جماح الغضب وكظم الغيض والحذر من العجلة في الرد، يقول جل ذكره: “وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ ۖ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُو خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ” النحل: 126.
وعن أنس رضي الله عنه أنه قال: “مَا رُفِعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْءٌ فِيهِ الْقِصَاصُ إِلَّا أَمَرَ فِيهِ بِالْعَفْو” سنن ابن ماجة: 2684 (مرفوع).
فعلى المؤمن دائما وكلما أوذي أو استُغضب فعفا أن يحتسب عمله ذاك خالصا لوجه الله تعالى، يرجو به رحمته ويقصد به ثوابه، فمتى استحضر العبد ذلك إلا وطابت به نفسه واطمأن قلبه واتسع صدره وارتقى في درجات المتقين، فلا يذوق حلاوة ذلك الإحساس إلا من جربه، فيدرك معنى العطاء الروحي والكرم المعنوي، الذي كثيرا ما يكون أشد أثرا على الغير من العطاء المادي، يقول الله تعالى: “قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى ۗ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ” البقرة:263.
وهذا الأثر الإيجابي لخلق العفو لا ينحصر على الشخص الذي يعفو بل يتعداه إلى من يحظى بالعفو، والذي قد يكون له انطباع سيء أو تصور سلبي في البداية، الشيء الذي قد يجعله يتصرف تصرفا غير مقبول في حق الشخص الآخر، لكن بمجرد وقوع فعل العفو عليه من قبل من أوذي، ورد هذا الأخير مقابل الإساءة إحسانا، فسرعان ما سيغير ذاك الشخص نظرته ويلين قلبه وتطمئن نفسه إلى من عفا عنه، فتصير العداوة صداقة ويتحول الكره ألفة ومحبة، وفي ذلك يقول الحق سبحانه: “وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ” فصلت:34.
وموافق الرسول صلى الله عليه وسلم التي تجلى فيها خلق العفو في أسمى مظاهره وتجسد خلق الحِلم في أبهى تجلياته، تشهد عليها كتب السيرة وتسردها أسفار التاريخ والآثار، وهذه المواقف أكثر من أن تحصى وتعد، حسبنا منها موقف واحد على سبيل الاستشهاد والبرهان، وهو موقف النبي صلى الله وسلم مع كفار مكة لما دخلها فاتحا، والمسلمون في أوج قوتهم، بعدما أبدلهم الله تعالى بعد الضعف شدة وبعد القلة كثرة، وهم الذين ذاقوا ألوان التنكيل والأذى والتهجير من مشركي قريش والنبي صلى الله عليه وسلم أولهم، فهل رد عليهم بالإساءة؟ أم هل قدَّم رغبة النفس في الانتقام على نيل أجر العفو والصفح من الله؟
لا والله، فهو أعظم الخلق خُلُقا، وأشرف البرية فضلا، فما كان منه -صلوات ربي وسلامه عليه- إلا أن قال لهم: “مَا تَقُولُونَ وَمَا تَظُنُّونَ؟ قالوا: نقول: ابن أخ، وابن عم، حليم رحيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أَقُولُ كَما قَالَ يُوسُفُ: “لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ۖ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ ۖ وَهُو أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ”، قال: فخرجوا كأنما نشروا من القبور، فدخلوا في الإسلام”. السنن الكبرى للبيهقي: 9 / 118 (قال العراقي في تخريج الإحياء: فيه ضعف).
فأي موقف أعظم من هذا وأي كرم أجزل منه؟
فطوبى لمن تخلق بالعفو وطابت به نفسه، وبشرى لمن اتخذ من العفو سبيلا للفوز بجنة عرضها السماوات والأرض.
اللهم اجعلنا من الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس..
واجعل عفونا عن العباد مفتاحا لعفوك عنا..
آمين.. والحمد لله رب العالمين..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *