النشاط الجنسي للإنسان بحث معرفي في الطبيعة والانحراف (3) إعداد: محمد زاوي

مدخل:

يعتبر موضوع “النشاط الجنسي” من أهم المواضيع التي تثير الكثير من المواقف المتناقضة، والكثير من الاضطرابات لدى ناشئتنا وشبابنا، وخصوصا في زمننا هذا، حيث اخترقتنا الإشكاليات الزائفة، والتي ليست هي إشكالياتنا حتما، فيما يخص مواضيع الحرية، والحريات الجنسية منها خاصة.

لا بد، إذن، من تصور النشاط الجنسي تصورا سليما، حتى تعيه كافة فئات المجتمع كما هو، ومن ثم تتعامل معه كما هو مطلوب تاريخيا، وكما هو مطلوب في مجتمعات إسلامية يعتبر الدين عنصرا بارزا من عناصر “ثقافتها الوطنية”. ومن مسؤوليتها التوعوية والتعليمية، ارتأت جريدة “السبيل” أن تتناول موضوع “النشاط الجنسي للإنسان” بشكل مفصل”، فيزيولوجيا واجتماعيا وسيكولوجيا. وذلك، قبل أن تبين لقرائها الكرام تهافت آراء ومواقف “الحداثويين” الذين يستغلون “العلوم” إياها، استغلالا إيديولوجيا، بهدف تفكيك الأسرة وقيمها.

 

ثالثا: سوسيولوجيا النشاط الجنسي

الجنس بين المنفعة والمتعة:

في الأكل والشرب، تتحقق المنافع أكثر مما تتحقق المتع. وفي النشاط الجنسي، تتحقق المتع أكثر مما تتحقق المنافع. قد يعيش الإنسان طويلا بلا متع، ولكنه لن يصبر قليلا على فقد المنافع.

يقول بوعلي ياسين: “ثقافة الإنسان شيء نابع من حياته ومتطلباتها، وهي تؤثر بدورها على حياة الإنسان وعلاقاته. حاجات الإنسان هي في الأصل وفي البدء حيوانية، محورها البقاء بشقيه: الحفاظ على حياة الإنسان بطريقة التغذية، بما فيها الماء والهواء، واستمرار النوع البشري بطريقة الجنس. ثمة نقص دائم، يخلق قلقا دائما لسد هذه النقص الذي لا يزول نهائيا. من هذا النقص والقلق والعلاقة الجدلية بينهما تنشأ الثقافة والآداب والفنون”. (1)

لقد جاء هذا الكلام في سياق تفسير بوعلي ياسين للثقافة، وليس هذا هو موضوع دراستنا هذه. إن كل ما يهمنا هنا هو أن نميز بين المنافع والمتع، وأن نكتشف بأن الجنس من هذه الأخيرة. وكما أن النقص يلحق المنافع، فهو يلحق المتع أيضا. إن هذا النقص هو سبب كل المشاكل النفسية والصراعات الاجتماعية التي عاشتها وتعيشها البشرية إلى يوم الناس هذا، فلولاه لما كانت ثقافة ولا سياسة.

أليست الحاجة إلى المنافع هي أصل قيمة الخوف؟

أليست الحاجة إلى المتع هي أصل قيمة الحب؟

إن مجال البحث الذي نتحرك فيه هو الذي سيحكم على جوابنا منذ البداية. فما دمنا نبحث داخل التاريخ البشري (لا خارجه)، فلن نجد غير الحاجة أصلا لكل قيمة على الأرض. أما إذا “تجاوزنا الكامن” (بتعبير عبد الوهاب المسيري) قليلا، فلن نجد غير أصل الأصول (الله) أصلا لكل حاجة وكل قيمة.

لن ننكر الغيب، ولكن فلنفسر التاريخ بالتاريخ أولا. فقد خاف الإنسان أولا من فنائه (على بقائه)، فبحث عن غذائه واجتمع لحماية نفسه من كل خطر داهم. وبالإضافة إلى ذلك، فقد وجد نفسه ميالا إلى الأنثى (كما وجدت هذه نفسها ميالة إلى الذكر)، وذلك هو أول اكتشاف للحب لديه.

إن مشاعر الحب والخوف هذه هي التي خلقت عنده القابلية للتدين، فما التدين إلا تلبية لحاجة الإنسان الذي يتجاوز خوفه المستمر ويملأ فراغ الحب لديه (“النقص الذي لا ينتهي”، بتعبير بوعلي ياسين).

فهناك من قال: “الخوف والحب هما الأساس الرئيسي لعاطفة الدين، وإنهما ينفردان بأن جذورهما راسخة كل الرسوخ في النفس الإنسانية، وبأنهما يرتبطان ارتباطا وثيقا بميول أولية أو غرائز، لا غنى عنها في استمرار النوع البشري: غريزة حفظ البقاء، وغريزة التناسل”. (2)

ليس كل هذا كلاما مفضولا، بل إن المقصود منه هو أن نثبت أصالة الجنس كغريزة إنسانية، كمتعة أصيلة ساهمت –بالإضافة إلى المنفعة-في استمرار الإنسان وتطوره كما أدى تنظيمها إلى تقدمه.

 

الجنس قبل ظهور الطبقات:

هل وجد الإنسان نفسه منتميا إلى طبقات وفئات اجتماعية مختلفة منذ أول يوم له على الأرض؟

ليس هذا ما يشهد به مورغان من خلال أبحاثه، وليس هذا ما صرح به فريدريك إنجلز في كتابه “أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة”.

ياسين بوعلي نفسه قال بقدم النشاط الجنسي قِدم الإنسان، ومعلومٌ أن للإنسان عصرا قديما هو عصر ما قبل الطبقات. في هذا العصر ظهر الدين كظاهرة وجودية ما قبل طبقية، والصراع الاجتماعي غير الطبقي، والصراعات الجنسانية –موضوع بحثنا هنا-اللاطبقية…

يقول بوعلي ياسين: “إن إلحاق توتر العلاقات الجنسية بالعلاقات الطبقية خاطئ في منطلقه، وفيه استهانة بهذه القضية الهامة جدا بالنسبة للتنظيم الاجتماعي وللمستقبل البشري” (3).

يرد بوعلي هنا على كل ماركسي لا يعترف بشيء اسمه “المجتمع الما قبل طبقي”، فلا يعرف من التاريخ إلا “تاريخ الصراع الطبقي”. نعم، “فالتاريخ هو تاريخ الصراع الطبقي” (كما يقول كارل ماركس)، ولكن في المجتمع الطبقي وليس في غيره.

فهل يعني هذا عدم وجود أي علاقة بين النشاط الجنسي والواقع طبقي؟

لا ثم لا. فالجنس سابق على الطبقة، ولكنها تؤثر فيه بعد ظهورها.

هكذا عبر بوعلي قائلا: “العلاقة بين الجنسين سابقة على العلاقات الطبقية، ثم متأثرة بها”.(4)

بقي لنا أن نطرح على بوعلي سؤالا واحدا في هذا الإطار، فما هي الأسباب التي جعلته يقول بأسبقية العلاقة بين الجنسين على العلاقات الطبقية؟

من خلال قراءتنا لكتاب بوعلي، يمكن أن نحصر هذه الأسباب فيما يلي:

– “الانجذاب بين أفراد الجنسين والتنابذ بين المعسكرين” الطبقيين.

– اختلاف أسباب الصراع بين الجنسين عن أسباب الصراع الطبقي.

– دلالة الأساطير القديمة على أسبقية الصراع الجنساني على الصراع الطبقي.

– “كثرة الخلاف حول الصراع الجنساني بين المتفقين في مواقفهم الطبقية، وكثرة الاتفاق حوله بين المختلفين في مواقفهم الطبقية”…(5).

 

الجنس وصراع الطبقات:

سيتفاجأ كثيرون إذا علموا أن هناك علاقة ضرورية بين الفئة الاجتماعية التي ينتمي إليها الإنسان ونشاطه الجنسي، وسيتفاجؤون أكثر إذا علموا أن المنحرف جنسيا قابل للاستغلال الطبقي وأن المستغَل طبقيا مهدد بالانحراف الجنسي.

ولكن دعونا نطرح السؤالين التاليين:

كيف تحدد الطبقة الاجتماعية النشاط الجنسي لمن ينتمي إليها؟

وكيف يكون المستغَل طبقيا منحرفا جنسيا؟

– فيما يتعلق بالجواب على السؤال الأول:

قبل أن يسود الذكور (المجتمع الذكوري)، كانت النساء هن السائدات (المجتمع الأمومي). وبناء على سيادة النساء كانت تسود أنماط متعددة من النشاط الجنسي، وبناء على سيادة الذكور سادت وتسود إلى اليوم أنماط أخرى مختلفة عن تلك السابقة (التي كانت سائدة في المجتمع الأمومي). هذا، وليست أنماط النشاط الجنسي السائدة في المجتمع الذكوري واحدة. فهي تختلف من طبقة إلى طبقة، ومن نمط إنتاج إلى آخر.

يقول كريس هارمان: “لم يكن أصل العائلة يدور، بطبيعة الحال، حول ظهور الطبقات والدولة فحسب. لقد كان يدور أيضا حول أصل اضطهاد النساء. وتتمثل وجهة نظر رئيسية في أن النساء لم يكن خاضعات للرجال حتى ظهور الطبقات” (6).

ظهور الطبقات إذن هو الذي أخضع النساء للرجال، ومعه أيضا ظهرت أنماط أخرى من النشاط الجنسي. فبعد أن كانت المرأة تملك حق ممارسة الجنس مع زوجها ومع الشباب غير المتزوجين من عشيرتها، ستصبح ملكا للرجل في “الأسرة البطريكية” ثم في “العائلة الأحادية” ثم في “شكل العائلة البورجوازية”.

بخصوص هذا الانتقال (الذي لم يكن حبيا، وإنما بالقوة) (7)، يقول إنجلس:

“أول تناحر طبقي ظهر في التاريخ يتزامن مع تطور التناحر بين الرجل والمرأة في الزواج الأحادي، وأول اضطهاد طبقي يتزامن مع اضطهاد نوع الذكر لنوع الأنثى”(8).

“الزواج الأحادي” هو الزواج الذي تكون فيه عدة نساء ملكا لرجل واحد، وهو عينه الزواج الذي ظهر مباشرة بعد اضطهاد الذكر للأنثى ونزع سلطانها منها واستحواذه عليها بالقوة. “الأسرة البطريكية” و”العائلة الأحادية” و”العائلة البورجوازية”… كلها أشكال للأسر التي عاش فيها الإنسان في زمن الصراع الطبقي، والتي نتجت عن التناحر الذي حصل بين الرجل والمرأة في الزواج الأحادي.

يقول هارمان: “المزيد من تطور وسائل الإنتاج جلب معه المزيد من التغيرات في شكل العائلة وطابع اضطهاد النساء. وقد زعم (يقصد إنجلس) أن هذا قد حدث عندما حل محل نمط الإنتاج العبودي القديم، النظام الإقطاعي، الذي كان، وفقا له، مصحوبا بإحلال “العائلة الأحادية” محل “الأسرة الحيازية البطريكية””. (9)

ويقول إنجلس: “الزواج الأحادي الجديد… غلف سيطرة الرجال بأشكال ألطف وسمح للنساء بأن يشغلن، على الأقل فيما يتعلق بالمظاهر الخارجية، مركزا أكثر حرية وأكثر احتراما من العصور القديمة”. (10)

ويقول هارمان أيضا: “بعد أن جرى القضاء على العائلة تقريبا بين الطبقة العاملة في المراحل المبكرة من الثورة الصناعية، سعت الرأسمالية إلى فرض شكل من العائلة البورجوازية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر باعتبارها الوسيلة الوحيدة لتأمين تنشئة الجيل الجديد من العمال. ومن هنا محاولات استعمال القانون والوعظ الديني للحد من مشاركة النساء في قوة العمل” (11).

لم تتغير أنماط النشاط الجنسي من مجتمع الأمومة إلى مجتمع الذكورة فحسب، ولكن الانتقال من نمط إنتاج إلى آخر في المجتمع الطبقي يؤدي إلى تغيرها أيضا. هذا ما حدث حتى كادت العائلة البروليتارية تنقرض، بسبب حاجة المرأة إلى العمل في المصنع وعدم قدرتها على التوفيق بينه وبين تبعات الإنجاب.

فهل يستطيع عاقل، إذن، أن يرفض تأثير العلاقات الطبقية على نمط النشاط الجنسي؟

وهل كان التطور البشري ظالما للمرأة بظهور الاسرة الذكورية؟

لقد حاولنا أن نجيب عن السؤال الأول بما نظنه كافيا أعلاه، أما الإجابة على السؤال الثاني فهي جدلية. لم يكن الإنسان ليتقدم خطوة إلى الأمام لو لم ينظم الجنس، ولكن هذا التنظيم –لسوء الحظ-كان طبقيا ظالما للمرأة. المطلوب اليوم هو أن نحافظ على الأسرة، ونحرر المرأة في نفس الوقت. أما توجيه الرأي العام إلى تحرير المرأة دون الحفاظ على الأسرة، فهو مؤذن بالفوضى وهدم كل ما بناه الإنسان. ليس هناك أي تحرير للمرأة دون تحرير للإنسانية جمعاء، وليس هناك أي مقاربة مجدية لمشاكل النساء غير المقاربة الاجتماعية التاريخية.

– فيما يتعلق بالجواب على السؤال الثاني:

لقد حاولنا في الجواب أعلاه أن نبين كيفية تأثير العلاقات الاجتماعية على النشاط الجنسي للإنسان، غير أن هناك وجها آخر للقضية. فالنشاط الجنسي يختلف بين الطبقات في نفس نمط الإنتاج، كما أن الانحرافات الجنسية يمكن أن تكون ذات مصدر طبقي أيضا.

في المجتمع الواحد، قد يختلف النشاط الجنسي بين مختلف الطبقات. وهو ما رصدته بعض الأبحاث في أحد المجتمعات الغربية (ألمانيا) كالآتي:

– البورجوازية الكبيرة: الزواج المتأخر، وانتشار العادة السرية، مما يطور المخيلة الجنسية لدى شباب هذه الطبقة ويجعلهم قادرين على الاستمتاع بالممارسة الجنسية أكثر من غيرهم.

– الطبقة العمالية: الجنس الروتيني الممل، ما يحرم العمال من المتعة الجنسية ومن بلوغ الشبق الجنسي.

– الطبقة الوسطى: حيث وجد أن أغلب الذين يدافعون عن المثلية الجنسية ينتمون إلى الطبقة الوسطى، فتلون الميل من تلون الموقع الاجتماعي. (12)

بالإضافة إلى ما ذكر أعلاه، هناك تفسير يعتبر أنّ كل مستغَل اجتماعيا قابل لأن يكون منحرف السلوك الجنسي. ولذلك انتشر الانحراف الجنسي بكثرة في صفوف العبيد المستعبَدين لدى الأسياد، زمن الاستعباد. كما كانت تفرغ طاقة العمال الجنسية بشكل محرف (بوضع صورة امرأة عارية أمام العمال بالقرب من آلة الإنتاج)، في القرنين 17 م و18 م، حتى يستفاد منها في إنتاج فائض القيمة للرأسماليين.

ولهذا قال عبد الصمد بلكبير: “لو شبع الإنسان جنسيا، لما قبل الظلم”. (13)

 

الهوامش:

(1): بوعلي ياسين، ينابيع الثقافة، ص 5-6.

(2): المستشرق جيب والدكتور عادل العوا، علم الأديان وبنية الفكر الإسلامي، منشورات عويدات، الطبعة الأولى، 1977، ص 60.

(3): بوعلي ياسين، نفس المرجع السابق، ص 13.

(4): نفسه، نفس الصفحة.

(5): نفسه، ص 13-14-15.

(6): كريس هارمان، إنجلس وأصل المجتمع البشري، ترجمة هند خليل كلفت، المركز القومي للترجمة، الطبعة الأولى، 2012، ص 99.

(7): راجع: “ينابيع الثقافة”، بوعلي ياسين.

(8): فريدريك إنجلس، أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة. من الكتاب المذكور سابقا لكريس هارمان، ص 99.

(9): كريس هارمان، نفس المرجع السابق، ص 117.

(10): فريدريك إنجلس، أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة. من كتاب كريس هارمان المذكور سابقا، ص 117.

(11): كريس هارمان، نفس المرجع السابق، ص 120.

(12): راجع “النشاط الجنسي وصراع الطبقات”، لرايموت رايش.

(13): المداخلة الثانية لعبد الصمد بلكبير، في مائدة “منتدى إحياء للتنمية الأخلاقية والفكرية”، في موضوع: “السلوك الجنسي البشري واستهدافات الغرب الرأسمالي: مقاربات متعددة”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *