قضية الاستشـهاد بالحديث في اللـغة بين مانعِـيها ومُجـوِّزيها -2- د. فريد أمعضشـو

أرْجَع دارسون انصرافَ لغويّينا المتقدمين عن الاستشهاد بنصوص الوَحْي عموماً، كِتاباً وسُنةً، إلى ما أسْماه أحدُهم “التحرُّز الدينيّ”، الذي مصدره الأساسُ تقديسهم لتلك النصوص، وخشيتهم من إساءة التعامل معها، عن غير قصْد بكل تأكيد، والإتيان بها في سياقات استدلال قدْ لا تكون ملائمة تماماً. لذا، فمِنْ باب الاحتراز آثروا عدم الاحتجاج بها في مسائل اللغة والنحو، مُكْتفين بكلام فصحاء العرب.
ومن أبرز الأسباب التي يذكرها مانعُو الاحتجاج بالحديث في اللغة، في هذا الإطار كذلك، وقوعُ كثير من اللَّحْن في الأحاديث النبوية؛ لأن كثيراً من رُواتها لم يكونوا عرباً بالطبع، ولم يكونوا مُجِيدين للّسان العربي. ورأوا هذا الأمرَ داعياً قويا ليترك قدماء اللغويين والنحاة العرب الاستدلال بالحديث في مجال إثبات الكلمات وتوثيقها، وتقعيد اللغة العربية، وبناء أحكامها النحوية وقوانينها الكلية.
ووجدْنا من دارِسِينا مَنْ يُعلّل ذلك بتضمُّن النصوص الحديثية أساليبَ وتراكيبَ جاريةً على غير ما هو شائع في الاستعمال اللغوي العربي، ممّا فتح البابَ لتعدد قراءات النحاة وتأويلهم لها.
فمِنْ ذلك، مثلاً، حديثُ “إنَّ قَعْرَ جَهَنَّمَ سَبْعينَ خَريفاً” (صحيح مسلم). إذ إن الواحد منّا يتساءل، بلا شكّ، عن علة جرّ كلمة “سبعين”، التي يبدو أنها واردة في سياق الرفع. فقد اختلف النحاة في تخريجها على قولين أساسييْن؛ بحيث إن نحاة الكوفة عَدُّوها منصوبة انسجاماً مع رأيهم الذي يُجيز نصْبَ “إنّ” وأخواتها مَعْمُوليْها معاً، على أن غيرهم خرّجوا الحديث على أن لفظ “القعر” الوارد فيه مصدر الفعل “قَعَر”؛ أي بلغ قعر الشيء، ولفظ “سبعين” منصوب على أنه ظرف، وتأويلُ الحديث أن بلوغ قعر جهنم يكون في سبعين خريفا/ عاماً.
وقبل الفَراغ من الكلام عن الموقف الأول، يَحْسُن بنا تسجيل تعليق سريع على أولئك الذين استمسكوا، للدفاع عن أطروحتهم بشأن امتناع القدماء عن الاحتجاج بالحديث في المادة اللغوية، بإرجاع ذلك إلى إعْراض سيبويه مطلقاً عنه في كتابه المشهور، الذي لم يكن مؤلَّفاً خالصاً في النحو والصرف العربييْن، بقدْر ما اشتمل –أيضاً- على مسائل بيانية وأدبية عدة.
فلا يملكُ قارئ الكتاب، من أوله إلى آخره، بشيء من التركيز، إلاّ الإقرار بانطوائه على أحاديث غير مرفوعة إليه صلى الله عليه وسلم، وغير منصوص على أنها أحاديثُ نبوية، ولكنها معروفة؛ مِنْ مِثل حديث: “كلُّ مولودٍ يولَد على الفطرة…”، إلا أنها تظلّ قليلة العدد، وهذه القلة تفسّرها الأستاذة خديجة الحديثي، في دراستها الموسومة بـ”الشاهد وأصول النحو في كتاب سيبويه”، باحتمالين اثنين؛ أولُهما “أنّ بين لغات قبائل العرب اختلافاً في الأساليب وفي القواعد؛ فتجوز في بعض اللغات أمور لا تجوز في لغات أخرى. أما القرآنُ والحديث فقد جاءا على أفصح اللغات واللهجات، ولا مجالَ للطعن فيما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم أو تكلم به، وهو أفصح العرب. إنما اسْتُغنيَ عنه بأسلوب القرآن وآياته الفصيحة التي نزلت بلسان عربي مُبين”.
وعبّرت عن ثانيهما بقولها: “ربّما اعتبر سيبويه الكلام المحتجّ به نوعين: كلام الله عزّ وجل، وكلام البشر، بمنْ فيهم الرسول والصحابة وغيرهم. فاستشهد بآيات القرآن، واعتبره الأساس الأول، وقاس عليه، أو قارن بينه وبين ما ورد عن العرب ليُبيّن أنه إنما نزل على ما تكلم به العرب وعلى ما يعْنون، فشبّهه بما ورد في كلامهم وأشعارهم، فقاسه على كلام العرب، أو ساوى بينهما في إثبات قاعدة أو حُكم. أما الحديثُ النبويّ فما هو إلا من كلام البشر، وما تكلم الرسول الكريم إلا بما تكلم به العرب، ولغته الأصلية هي لغة قريش، وهي أفصح اللغات عند سيبويه، فقد اعتبرها اللغة الأولى القدمى، ورآها أفصح اللغات، وهي التي نزل بها القرآن…”.
وفي المقابل، نجد أكثر علمائنا، من القدماء والمُحْدَثين، يُجيزون اعتمادَ المادة الحديثية في الاحتجاج لمسائل اللغة والنحو والصرف والبيان والبلاغة، ويمارسون ذلك، فعلاً، في أعمالهم وتآليفهم، دون أن يروا في الأمر شيئاً يمنع من مثل هذا الانفتاح والتواصل والإفادة.
فباستثناء ثلة من أهل اللغة، معدودة على رؤوس الأصابع، كانت ترفض الاحتجاج بالحديث في النحو، كانت الأغلبية العُظمى منهم تؤيّد، بقوة، الاستشهاد بالأحاديث في مجالي اللغة والنحو. يقول ابن الطيب الفاسي: “ما رأيتُ أحداً من الأشياخ المحققين إلا وهو يستدلّ بالأحاديث على القواعد النحوية، والألفاظ اللغوية، ويستنبطون من الأحاديث النبوية الأحكام النحوية والصرفية واللغوية وغير ذلك من أنواع العلوم اللسانية، كما يستخرجون منها الأحكام الشرعية. وأخيراً: الحقّ ما قاله الإمام ابن مالك علاّمة جيّان، لا ما قاله أبو حيان، وكلام ابن الضائع كلُّه ضائع”.
فابنُ مالك كان مُكْثِراً من الفَزَع إلى الحديث النبويّ يستمدّ منه النصوص للاستدلال بها على القواعد، وعلى إقرار الأحكام النحوية، إكثارَه من الاستشهاد بالآيات القرآنية والأشعار العربية، وإنْ كان في ذلك يقدّم الحديث على كلام العرب الفصحاء، ويأتي به في مقام ثانٍ بعد آيِ التنزيل الحكيم. يقول عنه الصلاح الصفدي إنه “كانَ أمّة في الاطلاع على الحديث؛ فكان أكثر ما يستشهدُ بالقرآن، فإنْ لم يكن فيه شاهد عَدَلَ إلى الحديث، فإن لم يكن فيه شاهد عدل إلى أشعار العرب”. ويظهر ذلك، بصورة أجْلى، في كتابه “شواهد التوضيح والتصحيح لمُشكلات الجامع الصحيح” الذي عقده للأحاديث مُشكلة الإعراب، ذاكراً لها الوُجوهَ التي تؤكد أنها من قبيل العربية الفصحى. وقد عرّضه استمساكُه بمنهج الاحتجاج بالحديث في القضايا اللغوية والنحوية إلى هجوم أبي حيان وانتقاده، وهو – كما قلنا – من أبرز مانِعِي الاستشهاد بالأحاديث في هذا الإطار، مع أن كلامه، في مؤلفاته، لم يَخْلُ من الاستدلال بالحديث النبوي مرّات، ولاسيما في المسائل الصرفية!
وأيَّد الاحتجاج بالحديث في اللغة والنحو، كذلك، ابنُ هشام الأنصاري؛ صاحبُ “مُغْني اللبيب عن كتب الأعاريب”، مُخالفاً مَهْيَعَ أستاذه أبي حيّان. وكذا ابن عقيل أحد أشهر شُرّاح ألفية ابن مالك في النحو والصرف، وبدر الدين محمد الدّماميني الذي لم يكنْ يفوّت أيَّ فرصة سانحة دون الاستدلال بالحديث؛ كما في مؤلَّفه “تعليق الفرائد على تسهيل الفوائد”، ودون التصدّي لمانِعِي هذا الاستدلال، وفي مقدمتهم أبو حيان الذي شنّع عليه وانتقده.
إن هؤلاء النحاة مَحْسوبون على المتأخرين، والاحتجاجُ بالأحاديث في المادة اللغوية والنحوية بدأ قبلَهم بقرون عديدة؛ كما نجد لدى أبي عمرٍو بن العلاء، والخليل بن أحمد، والكِسائي، والفَرّاء، والأصْمَعي، وأبي عبيد، وابن الأعرابي، وابن السّكّيت، وابن قُتيْبة، والمبرّد، وثعلب الكوفي، والنّحاس، وابن خالَوَيْه… فهؤلاء اللغويون المتقدِّمون لم يتردّدوا في الاستشهاد بالأحاديث، بما فيها غير المتواترة، في مسائل اللغة والنحو والتصريف وغيرها ممّا يتمحَّض لعلوم اللسان، بل إنَّا نجد في آثارهم الباقية كَمّاً لا يُستهان به من المادة الحديثية. وقد كثُر الاحتجاجُ بها في المجال اللغوي، عموماً، اعتباراً من القرن الهجري الرابع؛ كما يتبدّى لنا من تصفُّح مؤلفات ابن دُريْد، والزّجّاجي، وأبي الطيب اللغوي، وأبي سعيد السّيرافي، والأزهري، وأبي علي الفارسي، وأبي بكر الزّبيدي، وابن جنّي، وابن فارس، وأبي هلال العسْكري، والجوهري، والثعالبي، وأبي علي الشّلوبين، وابن الشجري، والزمخشري، وابن سِيدَه، وابن السّيد البَطَلْيَوْسي، وابن برّي، وابن خروف، والسهيلي؛ وهو من نحاة القرن السادس، وبه “ابتدأ، حقا، التوسُّع في الاستشهاد النحوي بحديث النبي صلى الله عليه وسلم، في كتابه الشهير المَوْسوم بـالأمالي”؛ كما قال الباحث محمد ضاري حمادي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *