لن ينال اللهَ لحومُها..

 

 

استحكمت في نفوس كثير من المسلمين الرغبة الشديدة في اقتناء الأضحية باعتبار عادات العيد فرصة للتوسع في أنواع الوجبات الشهية .. وصارت الفرحة مقترنة بذلك، كما أن الحزن مقترن بعدم القدرة على توفير تلك الموائد؛ وليس سببه: عدم القدرة على التقرب إلى الله تعالى بالنسك ..

بل إن آخرين يتحملون ديونا ويدخلون في نزاعات فقط من أجل المباهاة والمفاخرة ..

قال الله سبحانه: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2].

وقال عز وجل: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162، 163].

وقال سبحانه وتعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} [الحج: 37].

فالعبرة بما في القلب من تعظيمٍ لله ولشعائره، ومبادرة لامتثال أمره، وإظهار لتوحيده، وسعي لإحياء سنة الخليلين إبراهيم ومحمد عليهما السلام، من أجل ربط الناس بهديهما، وتذكيرهم بمواقفهما العظيمة في نصرة التوحيد والدعوة إلى الله جل وعلا، كما يُقصد أيضا بهذا التشريع: الإحسان إلى الفقراء وإكرامهم.

وما أحوج المسلمين إلى استحضار هذه المعاني، والتأمل فيها، وأن لا تبقى أعمالهم مجرد عادات ورثوها.

روى الطبري[1] عن ابن زيد في قوله تعالى: ]لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ[

قال: “اتق الله في هذه البُدن، واعمل فيها لله، واطلب ما قال الله تعظيما لشعائر الله ولحرمات الله؛ فإنه قال: ]وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ[

وقال: ]وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ[.

وقال العلامة السعدي: “وقوله: ]لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا[ أي: ليس المقصود منها ذبحها فقط.

ولا ينال الله من لحومها ولا دمائها شيء، لكونه الغني الحميد، وإنما يناله الإخلاص فيها، والاحتساب، والنية الصالحة؛ ولهذا قال: ]وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ[؛ ففي هذا حث وترغيب على الإخلاص في النحر، وأن يكون القصد وجه الله وحده، لا فخرا ولا رياء، ولا سمعة، ولا مجرد عادة.

وهكذا سائر العبادات، إن لم يقترن بها الإخلاص وتقوى الله، كانت كالقشور الذي لا لب فيه، والجسد الذي لا روح فيه”[2].

إن من مداخل فساد الدين: تحويل العبادات إلى مجرد عادات يمليها الإلف؛ وتدفع إليها الرغبات والمصالح؛ فهذا يجعل منها: هيكلا بلا حركة، وجسدا بلا روح ..

الأضحية فرصة للوصول إلى درجات أعلى في سُلّم القرب من الخالق تبارك وتعالى ..؛ ومن هنا كان الراجح أن أفضلها: أنفسها قيمة: البعير ثم البقرة ثم الضأن ثم الماعز ثم سُبُع البعير ثم سُبُع البقرة ثم عُشُر البعير.

فقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الرقاب أفضل؟

فقال: «أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها»[3].

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «الأزواج الثمانية من الإبل والبقر والضأن والماعز، على قدر الميسرة، فما عظُمت فهو أفضل»[4].

وهذا قول جماهير الفقهاء، خلافا للمالكية؛ الذين رأوا بأن التضحية بالكبش أفضل، واستدلوا بمواظبته صلى الله عليه وسلم على التضحية بالكبش.

ومن هنا أيضا كانت التضحية أفضل من الصدقة بثمن الأضحية؛ لأنه هو الذي واظب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد يعرض للمفضول ما يجعله فاضلا؛ ففي حالة حاجة الأمة إلى المال –مثلا- تصير الصدقة أولى من التضحية كما قال الفقهاء[5].

ومن هنا أيضا؛ كان الأفضل أن يباشر المسلم التضحية بنفسه كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وإن يجوز التوكيل فيها للمسلم القادر[6].

 

 

 

 

 

 

[1]– جامع البيان (18 /641).

[2]– تيسير الكريم الرحمن (1/538).

[3]– متفق عليه.

[4]– رواه البيهقي (9/457-19083).

 -[5]الشرح الممتع (7/521).

[6]– ومن أدلة مشروعية التوكيل فيها: حديث ابن عباس السابق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *