إن خير من تنتخب القوي الأمين.. محمد بوقنطار

كم هي ثقيلة هذه الأمانة، والأثقل منها المسؤولية عنها حالة التفريط والتقصير، فقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: “ما من رجل يلي أمر ثلاثة فما فوق إلا جاء يوم القيامة مغلولة يده إلى عنقه، فكه بره، أو أبقه إثمه”، فالأصل إذا في هذا الحمل الثقيل هو الاحتياط والمحاسبة والأخذ بالتفريط ابتداء لا بالبراءة، وقد عُلم من ظاهر النصوص كتابا وسنة أن حقوق العباد مبنية على المشاحة لا على المسامحة، خاصة ما تعلق منها بالأموال والأعراض والدماء، حيث كان التشديد في العقوبة مترتبا على فوات حظوظ الناس تحت طائلة ظلم ما أو مظلمة ما.

ولما كانت الأمانة أمانتين، أمانة دنيوية وأخرى دينية، يهمنا التنبيه على أن الكلام ها هنا لمناسبتين يهم أمانة الدنيا، فأما الأولى فمن جهة ما تقرر أنه لا رهبانية في الإسلام وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على البيع والشراء والمناكحة واللباس والتمتع بطيب الحياة الدنيا، كما اهتمت الشريعة الغراء بضبط كل هذه الأمور وتأطيرها من الناحية القانونية التشريعية ومن الناحية الأخلاقية والاجتماعية وقد قال صلى الله عليه وسلم “اتق الله حيث ما كنت”.

وأما الثانية فمن جهة ما نحن مقبلون عليه في قابل الأيام من انتخابات جماعية، تدخل في مسمى وعمق حمل الإنسان لهذه الأمانة الدنيوية، وما تحتاجه أمتنا المغربية من واجب تحضيض وتنبيه على أهمية الاختيار وضوابط الانتقاء الذي يسند هذا الثقل ويرمي به على كاهل من يطيق ويتحمل ويتجشم عناء النوء به من العرفاء الحكماء الأتقياء الأخفياء، وإنها لعملة نادرة وكبريت أحمر كما أثبتت التجارب السالفة، وقد رأينا ونحن ندعو إلى تولية السيء تفاديا لإتراف الأسوء، رأينا كيف تحوّل ذلك السيء إلى أسوء من الأسوء الأول الذي عنيناه وقتها “حزب العدالة والتنمية ــــــ حزب الأصالة والمعاصرة”.

وليس الكلام في هذا الشأن هو بدع من القول أو محدثة من ضلالة، فهذا نبينا عليه الصلاة والسلام وهو السيد في قومه النبي المرسل آثر أن يشاور، وأن يعطي لقومه عبر عرفائهم  هامشا للاختيار إذ جاء في صحيح البخاري من حديث المستورد بن شداد رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: “جاء وفد هوزان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلمين بعد أن سبى رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءهم وأموالهم، فقالوا يا رسول الله أتيناك مسلمين تائبين وإنا أردنا سبينا وأموالنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لكم الخيار إما السبي وإما المال، فقالوا يا رسول الله نريد سبينا، فجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فقال: إن إخوانكم من هوزان قد قدموا مسلمين، وإنهم أرادوا سبيهم ومالهم، وإني خيّرتهم بين سبيهم ومالهم فأرادوا السبي، فهل تجود أنفسكم بذلك؟ فقالوا رضينا بذلك يا رسول الله، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لا، حتى يأتي عرفاؤكم إليكم واحدا واحدا فذهب عرفاؤهم إليهم واحدا واحدا حتى جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله إنهم قد طابت أنفسهم بذلك، فأعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم سبيهم”

وهذا عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه لما جاءت خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه ذهب إلى أهل المدينة رجالا ونساء حتى ذهب إلى النساء في خدورهن، حتى أجمعوا على خلافة عثمان، فولوه ذلك الأمر…

وإنّما دل هذا على مكانة الأمانة وثقلها في مقام سوس الناس ورعاية شؤونهم الدنيوية فضلا عن الأخروية، فلا انفكاك بينهما في ديننا ذلك العظيم المجحود إلا في القلوب الموبوءة والنفوس المريضة والأذهان الحاقدة.

ولما أثبتت سوالف التجارب ببلادنا وغيرها من البلدان أن عناصر الحنكة والخبرة والمعرفة قد أوردنا بعض أصحابها موارد الهلاك والإفلاس على شتى نواحيها الحياة، فهمنا بالذوق  أن القوة الجسدية أو القوة العلمية أو القوة الوظيفية أو القوة المالية لا شأن ولا معيارية لها ولا اعتبار متى ما غابت الأمانة، وغاب ما اندرج تحت جنسها من أنواع عفة وكرامة ومروءة وصدق وصبر وتضحية وإيثار يرجح الصالح العام على المصالح الشخصية الضيقة، وإنها لعملة نادرة وكبريت أحمر كما قررنا سالفا في زمن تجرأ فيه المترفون المتعجلون في الأخذ بزمام هذا الحمل الثقيل، بل بيعت فيه الذمم وانقلبت فيه المفاهيم وسُميت الأسماء بغير حقيقة مسمياتها، وللأسف الشديد ورغم تكرار الخيانة وتجدد عود إخلاف الوعود واللدغ من نفس الجحر لمرات، ما استطاع الناس أن يستبينوا سبيل المجرمين، ولا استطاعوا أن يأخذوا العبرة والموعظة الحسنة من سوالف التجارب، ولا استفزت مشاعرهم النبيلة ومظنونهم الحسن سوابق الاصطفاف الحائف والانتساب الزائف.

إنني ما فتئت أتمثل تراجيديا أحداث الحملات الانتخابية ببلادنا، كلما أزفت أزفتها وحان وقتها وحلّ ضيفا علينا أوانها، حيث لا أزال أجتر في وضوح صورة ووفظاعة تشخيص كيف كان يمشي وكيل اللائحة في حيِّنا على الأرض هونا، خافضا جناح الذل للناس من الرحمة المؤقتة، طوّافا بين دروبنا بالحسنى، وقد ترجل من صهوة كبريائه ليخالط الفقراء ويجالس المعتوهين ويصافح الأطفال ويشاور الحرائر والولدان بل حتى المعتوهين والبلطجية والمنحرفين صار لهم حظ من وقت صاحبنا الثمين، والعجيب أن هذا السلوك غير النافق قد تكرر منه لسنين عددا في تحيين مراوغ صافق، وكان الصاحب المخالط المرة تلو الأخرى عند حصول المطلوب ونوال المرغوب يولي مدبرا ولا يعقب، فلا نكاد نرى لعينه أثرا، اللهم ذكر وذكرى غير عزيزة لفرده ووعده تُمرر في قالب من الحسرة ملحون ذي شجون وتباك يطول على أصحابه الأمد فينسوا، فيكون النسيان ها هنا باعثا على إعادة فصول ذلك التكرار وعين المحاولة بتفاصيلها النمطية ذات السطوة الهالكة والسكرة المفلسة، لتخرج نفس الوجوه من سدنة وخدام وكمبارس الحملات الانتخابية وقد غيّروا الوجهة تحت طائلة من دفع ويدفع بكثرة وسخاء حاتمي، يطوفون بيننا يتقدمهم كبيرهم الذي علّمهم السحر وقد تأبط بذراع أيّها الناس، بعد أن كساهم بثياب تحتفي بالرمز واللون والرسم والاسم، يرفعون عقيرة النداء والصراخ المتصل صداه بوقوده من ذلك السخاء الذي لا ينضب معينه، لا يملون ولا يكلون حتى يزفون الرجل إلى مقعده فيولي مدبرا في موعود رجعة بعد انصرام فترة الانتداب والوكالة، أو يرسب فينقلب سوطا على مريديه قبل غيرهم، وتلك سيرتنا مع ديموقراطية القوم في ثوبها ونسختها المحلية.

وإنّما كان الامتياز للشورى في الإسلام على مستورد ديموقراطية الغرب من هذه الجهة واضحا مستبينا، فبينما لا تسمح فلسفة الشورى كآلية اختيار إسلامية في إطار الاختيار والتعيين والانتقاء إلا لأصحاب الحل والعقد من نخبة المجتمع الإسلامي وكبرائه من أهل الفضل والصلاح والربانية بهذا الاختيار، تفزع الديموقراطية الغربية في إطار الاختيار وأخذا بمبدإ الأغلبية إلى السماح لكل من هبّ ودبّ بهذا الحق فلا فرق بين صالح وطالح ولا تمييز لجاهل من عالم، ولا فضل لكبير على صغير، ولا امتياز لمحسن عن مجرم، ما دامت الوجهة هي مراكمة كم الأغلبية فلا التفات لنوعها وكيفها، وتلك مصيبتنا مع سدنة الصناديق وصناع الفرجة المتكررة لانتخاباتنا ولسياسيينا ولأحزابنا التي باتت هي وهم تحت هذه الطائلة وذلك المقصود يتناسلان تناسل الفطر في يوم ممطر.

ونعوذ بالله أن نلدغ ابتداء من نفس الجحر ومن نفس اللون ومن نفس الطيف ومن نفس الشخص، حتى إذا ما حصل اللدغ أولا استعذنا بالله أن نلدغ من هذه المعطوفات ذات الجنس الواحد للمرة الثانية.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *