كتب لي فضيلة الدكتور عبد العزيز الساوري مقالا بديعا حول الصندوق الخشبي الذي كان يوضع فيه المصحف السعدي المشهور، قال في مقاله: ربيعة مصحف سعدي من الخشب المرصع: أكبر مصحف ضخم مموه التجليد يوجد في المغرب، أو أكبر ربيعة مرصعة بالصدف الجيد في غاية الدقة، بحيث لا تكاد تتميز أطراف الصدف، بقي المصحف والربيعة، وضاع الكرسي الذي أعد لهذا المصحف لأن يقرأ عليه، أو رحلة مصحف صفوي من خراسان إلى فاس ومن فاس إلى الرباط: ما بين سنة 980ه/1570م وسنة 1010ه/1601م، أهدى الشاه عباس الأول الصفوي المتوفى سنة 1629 م مصحفا إلى سلطان المغرب أبي العباس أحمد المنصور بن السلطان محمد الشيخ السعدي المتوفى سنة 1012ه/1603م.
وكانت للمنصور عناية تامة باقتناء الكتب والنفائس، وبذل الأموال الطائلة في جلبها من مختلف البلاد، ثم وقفها على خزانة جامع القرويين بفاس، ومن بينها هذا المصحف الصفوي الذي وصله هدية من خراسان، فقد حبسه بخطه على الخزانة المذكورة في قبتها السعدية، في أواسط رمضان المعظم عام 1011ه/1602م. (أنظر نص التحبيس بخطه، وبخطي أيضا نقلا عنه).
وقد ذكر هذا المصحف أول مرة في ” برنامج يشتمل على بيان الكتب العربية الموجودة في خزانة جامع القرويين بعاصمة فاس “، الذي أعده أبو مالك عبدالواحد الفاسي، وإدريس بن طلحة نيابة عن صهره الشيخ محمد عبدالحي الكتاني، تحت إشراف المستعرب الفرنسي ألفريد بيل Alfred Bel، وطبع بالمطبعة البلدية بدار المكينة فاس سنة 1917 م، وجاء في وصفه ص 15، مايلي: “مصحف كريم ضخم مموه التجليد “.
وفي سنة 1352ه/1934م ألقى محمد بن الحسين بن محمد بن الوليد العراقي الحسيني الفاسي (ت 1385ه/1965م) قيم خزانة جامع القرويين مسامرة في نادي المسامرات بفاس بعنوان: “تاريخ خزانة كلية القرويين”، ونشرت وشيكا بتحقيق صديقنا الأستاذ الدكتور عبدالمجيد بوكاري (الباحث في الخزانة الحسنية بالرباط )، في كتاب: “أبحاث في الكتاب العربي المخطوط”، الذي كنت أشرف عليه سنويا، في وزارة الثقافة.
يقول محمد العراقي في وصف كوديكولوجي دقيق لهذا المصحف الصفوي 2/116-117، ما نصه: “وأعظم أثر بقي للمنصور الذهبي لغاية الآن بخزانة كلية القرويين مصحف عظيم قل أن يوجد، بخط مشرقي على نمط واحد من أوله إلى آخره، مكتوب بالقلم الذهبي، فواتح سوره ورموزه وأحزابه، مرونقة بالتذهيب الجيد، مدبج الورقتين الأوليين بترصيع عجيب، وتنميق غريب لا زال لامع اللون، بأخره قصيدة مطلعها مدح القرآن، والباقي باللغة الفارسية، مرتبة على حروف الهجائية، نسخ سنة 979هـ/1571م، عدد أوراقه 370، في مجلد فريد الشكل، على وجه سفره لوحتان من الذهب الجيد الأصفر، وفي الوسط قطع من الذهب المخضر بنقش صيني، وداخل السفر شبكة ذهبية في غاية الإتقان ملصقة على قطع بألوان مختلفة متناسبة، مما يحقق أنه هدية من سلطان المشرق إلى سلطان المغرب، طوله 50 سانتيما، وعرضه 42 سانتيما، وغلظه 12 سانتيما، وعلى الورقة الأخيرة منه تحبيس السلطان المنصور الذهبي، وخطه بيمينه بأعلى وثيقة التحببس. ونصه، بعد البسملة والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: “المسطر أسفله صحيح”، وكتب بخطه: “عبد الله الراجي رحمته ومغفرته المعترف أحمد بن محمد بن محمد بن عبد الرحمن الحسني، خار الله سبحانه، ولطف به لطفا جميلا ولجميع المسلمين.
وبعده التحبيس، ونص الغرض المقصود منه: “الحمد لله حبس مولانا الإمام”، إلى أن قال: “هذا المصحف الكريم المقيد على الورقة الأخيرة منه على كل من يقرأ فيه من طلبة العلم الشريف، وفرهم الله، بخزانتهم الشريفة الجديدة، التي هي من شريف آثارهم، أيدهم الله، بقبلي جامع القرويين من فاس، حرسها الله، وشرطوا، أيدهم الله، في ذلك أن لا يخرج عن حريم الخزانة المتحذ للمطالعة هناك، بحيث لا يلتفت في مخالفة هذا الشرط إلى القول الوارد في ذلك”، إلى أن قال: “وكتبوا، رضي الله عنهم، خط يدهم الكريمة بصحة ذلك في أواسط رمضان المعظم من عام أحد عشر بعد الألف”.
فيستفاد من هذا الرسم فوائد أهمها:
– أن المؤسس أحمد المنصور الذهبي، رحمه الله.
– وأن الخزانة لها قاعة المطالعة.
– وأن المحبس اشترط في حبسه عدم إخراج الكتاب من محل المطالعة.. إلخ.
ونظرا لأهمية هذا المصحف، واعتناء بشأنه قد صنع له بفاس غشاء من الجلد المتين في إحكام تام، وجعل الجميع في ربيعة مرصعة بالصدف الجيد في غاية الدقة، بحيث لا تكاد تتميز أطراف الصدف، دليله تقدم الصنائع إذ ذاك. وهذا الاعتناء يبرهن على رسوخ القرآن في قلوب المسلمين. وكان لهذا المصحف كرسي أعد لأن يقرأ عليه، مصنوع بمثل صنعة الربيعة التي هو فيها، أخبرني به من رآه عيانا بالخزانة ولكنه تستر بالسحاب”.
والمراد ب “الربيعة” أو “الربعة” عند المغاربة: “مربع الشكل من خشب، مغشى بالجلد، ذو صفائح وحلق، يقسم داخله بيوتا بعدد أجزاء المصحف، يجعل في كل بيت منه جزء من المصحف، وإطلاقها على المصحف مجاز “، كما يقول أبو حامد محمد العربي الفاسي (ت 1052هـ) في شرح دلائل الخيرات (مخطوط في المكتبة الوطنية للمملكة المغربية بالرباط رقم ك 1532).
وفي آخر السبعينات أنتقل هذا المصحف الصفوي من القبة السعدية في خزانة جامع القرويين بفاس بدون ربيعته إلى الخزانة الحسنية (الملكية سابقا) بالرباط، ووضع له رقم 12870، وقام الباحث الطلعة سيدي محمد الإدريسي المهتم والولوع بمصاحف الخزانة الحسنية بالرباط، بوضع جذاذة فهرسية له، نصها: “مصحف: تام في مجلد واحد، الورقات 369، المسطرة 11، المقاس: 50/5.36. الخط: شرقي جميل واضح ومشكول، عناوين السور مذهبة، وداخل إطار ملون بالأزرق وماء الذهب، به تحليات مذهبة بالهامش، كلمة الله كتبت بماء الذهب مجموع صفحات القرآن، بآخره أبيات شعرية للإمام جعفر الصادق باللغة الفارسية، حبسه السلطان أحمد المنصور الذهبي السعدي على القبة السعدية بخزانة جامع القرويين بفاس عام 1011 ه. به ترميم بالجانب في بعض الأوراق، التسفير مذهب، وبه ترميم من الجانب، وكتب على التجليد بعض أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في فضل القرآن. تاريخ النسخ: 976 ه، عار من اسم الناسخ”.
وهذا المصحف الصفوي معروض الآن داخل طاولة زجاجية في بهو الخزانة الحسنية العامرة.
أما ربيعته من الخشب المرصع المتين المصنوع في فاس، فما زال محفوظا إلى الآن في متحف البطحاء للفنون الإسلامية بفاس، وهو يتبع المؤسسة الوطنية للمتاحف.
لكن كرسي هذا المصحف الصفوي الذي أعد لأن يقرأ عليه، فقد ضاع قديما، ولا يعرف مستقره الآن.
وقد رأيت هذا المصحف الصفوي في 6 ماي سنة 2011، عندما نظمت وزارة الثقافة معرض “مصاحف المغرب” بالمكتبة الوطنية للمملكة المغربية بالرباط، ومن المصاحف التي تم عرضها هذا المصحف الشريف من تحبيس أحمد المنصور السعدي ذو الأصل الصفوي على خزانة جامع القرويين بفاس سنة 1011ه.
وتجدون مرفقا بهذه المادة، نص تحبيس السلطان أبي العباس أحمد المنصور الذهبي السعدي بخط يمينه على الورقة الأخيرة من هذا المصحف الصفوي، وهي قاعدته في كتبه المحبسة على خزانة جامع القرويين بفاس، ولا يزال خطه -كما يقول محمد العراقي- يلمع كالبرق الخاطف لأنه كان يجفف كتابته بمسحوق الذهب ليبقى علامة على ثروة صاحبه إذا ذهب.
وورد في نص التحبيس مصطلح: “قيم الخزانة”، وهو مصطلح مغربي يقصد به محافظ الخزانة وأمينها Conservateur.
تحية إعزاز وتقدير وإكبار واحترام إلى المستعربة الفرنسية الأستاذة الدكتورة إلينيور سلار Eléonore Cellard على جهودها وإسهاماتها الكبيرة في التعريف بتاريخ المصاحف الشريفة، وتنوعها وأساليبها وخطوطها وتسفيرها.
وكتب عبد العزيز الساوري في حي أكدال برباط الفتح..