“العلمانية”؛ المصطلح المفتاح لدى عديدين، الحلم الذي سينهي الأحزان والآلام، المعيار الفارق بين متقدم ومتخلف، المرتفع الشامخ الذي لا يرتقيه المحافظون والتراثيون والأثريون!!
العلمانية التي تستوجب النقد المتين ليست هذه العلمانية الرثة التي أصبحت ملاذا للتافهين، تلك هي علمانية فلاسفة الغرب إذا استصحبت في سياقنا، أو علمانية بعض مفكري العرب الذين أغفلوا مكانة الدين في مجتمعاتهم؛ أما هذه الرائجة بيننا، فإن النقد يستحيي منها، ومن الناطقين بها.
تشكل المطالبة بالعلمانية خطرا، لا على الدولة وحدها، بل على المجتمع أيضا. يكمن وجه الخطورة، بالنسبة للدولة، في إرباك شرعيتها الدينية، دون تقدير للمآلات؛ فيما يكمن وجه الخطورة، بالنسبة للمجتمع، في تفكيك أواصره وعناصر الربط الدينية بين مكوناته.
وهكذا، فإن علمانية “حداثويينا” ليست حلا لمشاكلنا، ولا بديلا سديدا لنظمنا القائمة؛ وفوق هذا وذاك، فهي في تصورهم فاسدة، لا يفهمونها كـ”مشروع ديني”! بل سيندهشون لربطنا بين العلمانية والدين، ملقين على مسامعنا مقولتهم الشهيرة: “العلمانية فصل بين الدين والسياسة”!
نصرح بخللهم التصوري، ونعي أن ما يغيب عن تصورهم عن جهل، نحن نغيبه بوعي. فمجتمعاتنا ودولنا، في بلاد العرب، ليست بحاجة لا إلى علمانية التافهين، ولا إلى العلمانية “كمشروع ديني”.
بلادنا في حاجة إلى دين، يحفظ إنسانيتنا، ويعزز وحدتنا، ويحمي حدودنا، ويضمن استقرارنا وأمننا، ويمتِّن أواصرنا، وغير ذلك. إننا في حاجة إلى الدين، في زمن العودة للأديان، في زمن عودة الأرثودوكسية الأوراسية، والإمامية الشيعية، والكنفشيوسية الصينية… الخ.
ترجع القوى العظمى إلى الدين، وتتشبث الدول القومية بتراثها الديني؛ إلا أن حداثويينا يشقون لأنفسهم طريقا آخر، يشقونه من غير تأثير على مجتمع ولا دولة. فالدين بالنسبة لأفراد المجتمع عزاء وجودي يكف “ظمأهم الأنطولوجي”، عنصر حماية وصمام أمان ضد الآفات الاجتماعية والأخلاقية. وهو (أي الدين) بالنسبة للدولة، مصدر شرعية ووسيلة من وسائل الضبط الإيديولوجي. فكيف لهما (=المجتمع والدولة) أن ينفصلا عنه، أو أن يفصلاه عنهما، وقد تشكلت علاقتهما به عبر تاريخ طويل؟!