مكانة الفقهاء في الخلافة العثمانية (م.ز)

حظي الفقهاء في الدولة العثمانية بمكانة بارزة لم تقتصر على أدوارهم في الوعظ والخطابة والتوجيه الشعائري، بل تجاوزت تلك الأدوار المعتادة لتشمل أدوارا أخرى في القضاء والإفتاء العام وإبداء وجهات نظرهم في القضايا السياسية والاجتماعية. وكذلك بقي العثمانيين على عهدهم مع الفقهاء وعلماء الشريعة حتى ضعفت الخلافة وتلاشت في التاريخ، وقبل أن ينقلب تاريخ الأتراك مع كمال أتاتورك.

إنها وصية العثمانيين الأوائل، بل وصية عثمان بن أرطغرل بن سليمان مؤسس الدولة العثمانية الذي “كانت حياته جهادا ودعوة في سبيل الله، وكان علماء الدين يحيطون به ويشرفون على التخطيط الإداري والتنفيذ الشرعي للإمارة”. (محمد علي الصلابي، الدولة العثمانية: عوامل النهوض وأسباب السقوط، دار التوزيع والنشر الإسلامية، الطبعة الأولى، 2001، ص 49)

فقد أوصى مؤسس الدولة العثمانية وهو على فراش الموت ولده وولي عهده أورخان بالعلماء والفقهاء خيرا، فجاء في وصيته:

“يا بني، أوصيك بعلماء الأمة، أدم رعايتهم، وأكثر من تبجيلهم، وانزل على مشورتهم، فإنهم لا يأمرون إلا بخير.

يا بني، إياك أن تفعل أمرا لا يرضي الله عز وجل، وإذا صعب عليك أمر فاسأل علماء الشريعة، فإنهم سيدلونك على الخير.

واعلم يا بني أن طريقنا الوحيد في هذه الدنيا هو طريق الله، وأن مقصدنا الوحيد هو نشر دين الله، وأننا لسنا طلاب جاه ولا دنيا”. (زياد أبو غنيمة، جوانب مضيئة في تاريخ العثمانيين، ص 3/ ذكره الصلابي في المرجع المذكور، ص 50).

وقد رُوي عن العثمانيين أنهم “كانوا يعظمون الشرع وأحكامه وقضاته، فلا يقومون بعمل إلا بفتوى شرعية”، كما كانوا “يجلون العلماء ويعتقدون الصلحاء، ويكرمون أهل القرآن، فلم ينقل عنهم ولم يسمع منهم إهانة أحد العلماء حقيقة”. ومن سأل عن منهج فقهاء العثمانيين في الشرائع، فإنهم كانوا مجمعين على “وجوب إقامة الحد والحق على كل شريف وضعيف، وأن حرمة آل البيت لا تحول دون إقامة الحدود عليهم، وكذا حرمة الحرمين لا تمنع من قتال من أراد فيه إلحادا” (حاكم المطيري، الخلافة العثمانية ودورها في التجديد الديني وظهور الحركات الإصلاحية، ص 72-73).

ورغم أن الفرمانات العثمانية (بمثابة الظهائر السلطانية التي كان يعمل بها في المغرب) كانت تصدر بأمر من السلطان وباسمه وبتقديره لمصالح رعيته، إلا أنها لم تكن تخرج عن الشريعة الإسلامية، بل يسمح بها الفقهاء ويحرصون على موافقتها للشريعة الإسلامية. “فقد كانت الشريعة القانون الأساسي والثابت، وبالتحديد القانون الديني الإسلامي. ولذلك فقد كانت الفرمانات السلطانية تتضمن دائما جملة تفيد أن الفرمانات تنسجم مع الشريعة والقوانين الصادرة من قبل”. (خليل إينالجيك، تاريخ الدولة العثمانية: من النشوء إلى الانحدار، ترجمة محمد الأرناؤوط، دار المدار الإسلامي، الطبعة الأولى، 2002، ص 112).

وقد كان مدرسو العلوم الإسلامية، أي شيوخ التدريس، يحظون بمكانة مهمة في دولة الخلافة العثمانية. فـ”فيما يتعلق بالتعليم الإسلامي فقد كان الركن الأساسي فيه هو المدرس أو الشيخ الذي كان يحظى بمكانة عالية، باعتباره يعرف العلوم الدينية والروحية جيدا”، وذلك لأن المعارف العامة من العلوم الإسلامية كانت فرض عين على كل طالب قبل أن يتخصص في مجال من باقي المجالات الدينية أو الدنيوية. (نفس المرجع، ص 255).

وبالإضافة إلى كل هذا، يجب استحضار المكانة التي احتلها “مفتي إستانبول” زمن العثمانيين، إذ “كان للهيئة الإسلامية في الدولة وضع معترف به ومركز مرموق. وكان يطلق على رئيسها المفتي أو مفتي إستانبول، ثم أطلق عليه بعد ذلك شيخ الإسلام. وكانت الهيئات القضائية والهيئات ذات الطابع أو النشاط الديني تخضع لنفوذه. وكان السلاطين حريصين على تدعيم سلطته… (و) كان المفتي يصدر فتوى تجيز الحروب التي تخوضها الدولة دفاعا أو هجوما، وعقد الصلح وغير ذلك من الأحداث الجسام التي واجهتها الدولة عبر تاريخها الطويل”. (عبد العزيز محمد الشناوي، الدولة العثمانية: دولة إسلامية مفترى عليها، الجزء 1، مكتبة الأنجلو المصرية، 1980، ص 54).

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *