قال الحق جل في علاه: “الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ” لقد قرن الله سبحانه الإيمان وتحقيقه -والذي هو لب الأمر وأسُّه- بزوال الشرك، وعبر عنه هنا بالظلم، ليكون كلاً من الإيمان والتوحيد أساساً وشرطاً لحصول الأمن مما يوحي وببداهة بسيطة أن الأمن أمر مهم جداً ولا يمكن أن تحيا الشعوب وتزدهر وتتطور بدونه، وعلى قدر أهميته وضرورته للناس كانت له شروط لتحقيقه وحصوله، ومن هنا نجد أن الأمن جزء من الإيمان والتوحيد واللذان يقومان على الاعتقاد والعمل، ولذا فإن الحكمة الأعم في أمر العقوبات في النظام الشرعي أنها تهدف إلى إشاعة الأمن في المجتمع المسلم، وحماية أعضائه من عدوان المعتدين، سواء في أمر النزوات والغرائز أم في أمر الأموال والدماء.
ففي حالة خطايا النفوس ونزواتها التي لا يملك الإنسان عامة أن يأمن الوقوع فيها وفي كل الأحوال وطيلة حياته، نجد أن عقوبة هذا النوع من الخطايا والجنايات ليست مقصودة للفعل في ذاته، ولكنها للمجاهرة به والإصرار عليه ولما يترتب على ذلك من فساد للفرد والمجتمع.
كما أن الوقوع في النزوات وإرضائها لا يتطلب إشهارها والمجاهرة بها، فمن أشهر ليس له مخرج من العقاب، وذلك حفظاً لأمن الناس ورعاية لحقوقهم الدينية والخلقية، وبذلك فإن الفرد لابد أن يشعر بالأمن والطمأنينة لا الخوف والرهبة حين يعلم أن الحكمة من العقوبة التي تتعلق بالجرائم الناجمة عن النزوات هي منع أهل الفساد من إقحام فسادهم في حياة الناس وأهليهم، والتغرير بصغارهم دون إرادة أو رغبة منهم، فإنزال العقوبة بالمفسد المستهتر تبعث الطمأنينة والإحساس بالأمن في نفوس أفراد المجتمع، وقسوة العقوبة إلى جانب أنها حماية حاسمة وصارمة لحقوق الإنسان الأساسية في الخيار، فإنها تدل أيضاً على فداحة الفاحشة وما يترتب عليها من آثار اجتماعية خطيرة في مجال الأسرة والمجتمع.
الحرية والعقوبة
إن من أهم مزايا أحكام الشريعة الإسلامية ونظام المجتمع الإسلامي، معرفة معنى الحرية الإنسانية وإدراك حدودها، وذلك على غير حال المجتمع العلماني المادي الذي يبدو أنه قد فقد الدليل لمعرفة معنى الحرية الإنسانية ومغزى ضوابط النظام الاجتماعي الإنساني، وهذا الجهل والتخبط في هذا الأمر الأساسي يؤدي بالضرورة إلى الفوضى في العلاقات الإنسانية، ويؤدي إلى انهيار النظام الاجتماعي الإنساني برمته، فكل نظام في الوجود له حدود وقواعد، وليس النظام الاجتماعي الإنساني في ذلك بدعاً، ولذلك يجب مراعاة أسس النظام الإنساني وقواعده وحدوده والوقوف عندها، وعدم القدرة على معرفة قواعد النظام الاجتماعي وحدود أدائه يعني انجراف ذلك النظام حتماً إلى التدهور والانهيار.
أما الجرائم المتعلقة بالأموال والدماء فإننا نجد أن العقوبة فيها على العكس من عقوبة جرائم الغرائز والنزوات، مقصودة للفعل في ذاته وليس للإشهار، فالإنسان السوي من عامة الناس لا يضمر في نفسه قصد قتل الأبرياء أو سرقة أموالهم وممتلكاتهم، ولكن الإنسان السوي من عامة الناس لابد أن يخطر بباله إمكان تعرضه خلال حياته للعدوان على حياته أو ماله، ولذلك فإن هذا الإنسان يجد في عقوبة العدوان على الأموال والدماء وتوجهها إلى واقعة الفعل في ذاته حمايةً له وحفظاً لأمنه.
وإذا كان المقصود من عقوبة العدوان على النفوس والأموال توفيرَ الحماية للأبرياء، فإن هذا لا يعني أيضاً قصد العقاب لذاته، فالعقاب ليس غاية في حد ذاته في كل الأحوال، ولكن القصد هو تحقيق الأمن، وما يتحقق به الأمن في حده الأدنى هو الحد المطلوب من العقوبة، ولذلك فإن الشريعة أعطت أولياء الدماء الحق في العفو وشجعت عليه، لأن العفو إنما يصار إليه عند القدرة، والإحساس بالأمن.
إذا أدركنا طبيعة نظام العقوبات على الوجه الذي سلف، وتكَامَل فهمنا للطبائع مع فهم هداية الوحي، فإن نظام العقوبات الإسلامي يصبح كما أسلفنا مصدراً للإحساس بالأمن والطمأنينة، على عكس ما يسببه العرض الناقص لهذا النظام، ذلك العرض الذي يروج لصورته المرعبة والمشوهة بعضُ الناس عن جهل، وبعضُ أصحاب الأغراض عن حقد، مما يؤدي إلى إشاعة الخوف والرهبة وانعدام الإحساس بالأمن بشكل واع أو غير واع في نفوس عامة الناس، فيقضي على مشاعر الكرامة والمبادرة والإبداع الخير في نفوسهم.