الدبلوماسية المغربية بين سياسة الخطيب وسياسة الزبدي

بعد الأعمال التي قام بها سكان أنجرة، طالب الإسبان المغرب بأربعة مطالب، وكان الإسبان يتمنون عدم تحقيقها، وحتى إذا ما تحققت فلن تكون غير وسيلة من وسائل إذلال المغرب والمغاربة، ومع ذلك أجاب الخطيب أنه سيحقق ثلاثة من المطالب الأربعة، ماعدا ما يخص التصريح حول القيام بالأشغال، وكان هذا هو رأي السلطان المتفق عليه من كل المؤرخين المعاصرين، بيد أن الجواب بالقبول كان حسب اجتهاد الخطيب الذي كان ملما بالمشكل ونتائجه، وحتى يجنب البلاد ما صمم عليه الإسبان، أجاب بالقبول ثم أقنع السلطان الذي وافقه في رسالة جوابية بعد شهر.
إلا أن السلطان عاد وسحب موافقته بعدما أشار إليه الأمير العباس بن عبد الرحمن في مذكراته من “تلبيس على السلطان”، وربما لم يكن كما ظنه الأمير حسب وصفه، بل كان ذا غيرة وحماس وانتصار لأهل أنجرة الذين ثاروا ضد تصرفات الخطيب بعاطفتهم.
إن العاطفة تدفع أيا كان في هذه الحالة إلى اتخاذ ما يناسب عجرفة الإسبان وغلوهم البغيض، لكن محمد الخطيب كان ذا نباهة دبلوماسية، حين أجاب بقبول المطالب، لتكون إجابته حجة على الإسبان أمام قناصل الدول وقتها، لكن الإسبان كانوا قد انتهوا إلى تخطيط وتنفيذ مقدماته، ولا يمكنهم التراجع دون السير به حتى النهاية، ولذلك لم يزدهم الخطيب وحسن استعداده للتفاهم إلا رعونة وتحرشا واستفزازا، ولم تكن زيادة أجل الانتظار قصد تحقيق المطالب بسبب موت السلطان كما قيل، بل كانت وحسب الاستنتاج من أجل الاستعدادات التي كانت جارية في إسبانيا على قدم وساق.
ولم يكن المغرب وقتها يتوفر على أية معلومات حول استعدادات الإسبان حتى أعلم السفير الإنجليزي الخطيب والزبدي اللذان بدورهما أعلما السلطان محمد بن عبد الرحمن، الذي فوض للخطيب بقبول المطالب الأربعة والإشراف على تنفيذها.
بل إن السلطان مبالغة منه في قبول كل الحلول قصد التخلص من المشكل الذي جسمه له الخطيب بصدق وأمانة، عين نائبا مفوضا لحله وقبول كل الشروط، وهو الحاج محمد الزبدي، وكان مما أغرى الإسبان ليونة الخطيب وطول نفسه ولياقته وقوة احتماله أمام غلو الإسبان وعجرفة “خوان بلانكودي أباليي”، كما عبر عن ذلك الخطيب بقوله: إن التعامل مع “بلانكو” كان في حاجة إلى صبر وتحمل أكثر، ولا نقول: إذلالا ومهانة أكثر.
لكن مع الأسف ومن خلال تفكير قائد المعركة وقتها الأمير العباس قبل أن يعيش الواقع ويتراجع، فقد كتب الأمير المذكور رسالة إلى الزبدي يصف فيها الخطيب بالخوف؟
ونسي أن خوف الخطيب كان هو الحكمة والشجاعة والإقدام كما يظهر من أسلوب مباشرته للمشاكل من خلال الوثائق، في حين أن التاريخ لا ينظر لمثل الخطيب إلا من جانب ما قام به من أعمال أبانت عن كفاءته، وأنه كان يعيش مشاكل المغرب السياسية، ويقدر ما تعانيه من أحلك الظروف، إذ هو كما عبر حين توصل بظهير تعيين الحاج محمد الزبدي كمعين حسب التعبير السلطاني، فأجاب كما روى الأمير العباس قوله حين قال: لم أحتج إلى مساعدة منذ ثلاثة عشر عام مضت؟ فكيف حدث ذلك اليوم؟ إن لم يكن القصد هو الضرب على يد الخطيب الذي لم يغرر بالدولة كغيره من المفترين تملقا للسلطان الغارق وقتها فيما لم يعهد من المشاكل بعد موت والده.
والزبدي هو الآخر سيغتر ويغرر بالسلطان الذي كانت المراسلة بينهما تدل على منتهى السذاجة، حتى ليشعر المرء وكأن المسير للمعارك من جانب المغرب إنما هو القنصل “هاي” ولنسمع إلى السلطان نفسه يرد على رسالة للزبدي بتاريخ: 15 ربيع الثاني 1276هـ/12-11-1859م، وقد مضى على الحرب ثمانية عشر يوما والحديث عن الإسبان الذين دخلهم الرعب والفشل “لما رأوا ما عليه المسلمون من الضبط والاستعداد يقول السلطان حسب إخبار الزبدي الذي خالف رأيه كلية وتفصيلا رأي الخطيب.
وتستمر الرسالة، وتبين كذبه فيما كان زعمه من أن جنس الفرنسيس وعده بالأخذ بيده فيما يحتاجه، وأن نائب الفرنسيس ورد عليه الكتب من دولتهم بتكذيب الكافر الصبنيولي والتبري من إعانته وإمداده، وظهرت ثمرة ما دفعته مع نسخ ما دار بينكم وبينه لنواب الأجناس، وأنه دمره الله وخيب سعيه لما رأى ما عليه الثغور من التحصين طمع في الإتيان لأصيلة، لما علم من تفريطها، فوجهتم من ينظر في أمرها بما أشار به عليكم نائب الانجليز..الخ
إن المغرب عبر تاريخه لم يعرف هذا المستوى المنحط في السياسة، سواء في الداخل أو الخارج، بل ولم يعرف في معاملاته الدولية مرحلة كالتي بدأت ما بعد معركة إيسلي التي حطمت المعنويات رجالات الدولة بما فيهم السلطان الذي أصبح لا يتحرك ويقف إلا بمشورة القنصل الانجليزي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *