يتواصل حديثنا عن الآية الرابعة في هذا المبحث وهي قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا) [الأحزاب:36].
قال ابن القيم رحمه الله: “دَلّ هذا على أنه إذا ثبت لله ولرسوله في كل مسألة من المسائل حُكْمٌ طلبيٌّ أو خبريٌّ، فإنه ليس لأحد أن يَتَخَيَّر لنفسه غير ذلك الحكم فيذهب إليه، وأن ذلك ليس لمؤمن ولا مؤمنة أصلًا، فدلَّ على أن ذلك مُنافٍ للإيمان.
وقد حكى الشافعي رضي الله عنه إجماعَ الصحابةِ والتابعين ومَن بعدهم على أنّ من استبانت له سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يَدَعَها لقول أحد.
ولا يستريب أحدٌ من أئمة الإسلام في صحَّة ما قال الشافعي رضي الله عنه. فإن الحجَّةَ الواجبَ اتباعُها على الخلق كافّةً إنما هو قول المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، وأما أقوال غيره فغايتها أن تكون سائغةَ الاتباع لا واجبةَ الاتباع، فضلًا عن أن تُعارَضَ بها النصوصُ، وتُقَدَّمَ عليها، عياذًا بالله من الخذلان”([1]).
فكيف يستسيغ كثير ممن يشكك في حجية سنة النبي صلى الله عليه وسلم أن يخالف منطوق هذه الآية التي لم تجعل لم اتصف بالإيمان الاختيار في تلقي قضاء الله وقضاء رسوله (=الكتاب والسنة) فإن “اختيار العبد خلاف ذلك منافٍ لإيمانه وتسليمه، ورضاه بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمَّدٍ رسولًا”([2]).
وقال ابن القيم أيضا:” فقطع سبحانه وتعالى التخيير بعد أمره وأمر رسوله، فليس لمؤمن أن يختار شيئًا بعد أمره صلى الله عليه وسلم، بل إذا أمر فأمرُه حَتْم؛ وإنما الخيرة في قول غيره إذا خفي أمره، وكان ذلك الغير من أهل العلم به وبسنته، فبهذه الشروط يكون قول غيره سائغ الاتباع، لا واجب الاتباع. فلا يجب على أحد اتباع قول أحد سواه، بل غايته أنه يسوغ له اتباعه، ولو ترك الأخذ بقوله لم يكن عاصيًا لله ورسوله.
فأين هذا ممن يجب على جميع المكلَّفين اتباعُه، ويحرم عليهم مخالفتُه، ويجب عليهم تركُ كلِّ قولٍ لقوله؛ فلا حكم لأحد معه، ولا قول لأحد معه، كما لا تشريع لأحد معه؟ وكلُّ من سواه، فإنما يجب اتباعه على قوله إذا أمر بما أمر به، ونهى عما نهى عنه، فكان مبلِّغًا محضًا، ومخبرًا لا منشئًا ومؤسِّسًا. فمن أنشأ أقوالًا وأسَّس قواعد بحسب فهمه وتأويله لم يجب على الأمة اتباعها، ولا التحاكم إليها حتى تُعرَض على ما جاء به، فإن طابقته ووافقته وشهد لها بالصحة قُبِلت حينئذ، وإن خالفته وجب ردُّها واطِّراحُها. وإن لم يتبين فيها أحد الأمرين جُعلت موقوفةً، وكان أحسن أحوالها أن يجوز الحكم والإفتاء بها وتركه، وأما أن يجب ويتعيَّن فكلَّا ولمَّا ” ([3]).
وقال في مقام آخر:” فأخبر سبحانه أنه ليس لمؤمن أن يختار بعد قضائه وقضاء رسوله، ومن يختَرْ بعد ذلك فقد ضلَّ ضلالًا مبينًا”([4]).
وقال الإمام الشنقيطي: “فجعل أمر الرسول مانعًا من الاختيار موجبًا للامتثال”([5]).
فإن “لفظة (ما كان، وما ينبغي ونحوهما، معناها الحظر والمنع. فتجيء لحظر الشيء والحكم بأنه لا يكون، كما في هذه الآية. وربما كان امتناع ذلك الشيء عقلا كقوله تعالى:( مَا كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها) [النمل: 60]. وربما كان العلم بامتناعه شرعا كقوله تعالى: (مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) [آل عمران:79]، وقوله تعالى: (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) [الشورى:51]. وربما كان في المندوبات، كما تقول: ما كان لك يا فلان أن تترك النوافل، ونحو هذا”([6]).
وقال أبو بكر الجصاص: “فيه الدلالة على أن أوامر الله وأوامر رسوله على الوجوب لأنه قد نفى بالآية أن تكون لنا الخيرة في ترك أوامر الله وأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم ولو لم يكن على الوجوب لكنا مخيرين بين الترك والفعل وقد نفت الآية التخيير وقوله تعالى ومن يعص الله ورسوله في نسق ذكر الأوامر يدل على ذلك أيضا وأن تارك الأمر عاص لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم فقد انتظمت الآية الدلالة على وجوب أوامر الله وأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم من وجهين أحدهما أنها نفت التخيير معهما والثاني أن تارك الأمر عاص الله ورسوله”([7]).
لقد خالف بعض الصحابة في غزة أحد وهم الرماة أمرا واحدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم في غزة أحد فاستحق الجيش كله الهزيمة فكيف تريد الأمة اليوم النصر على أعداء الإسلام وهي تنازع في أحكام رسول الله صلى الله عليه وسلم(=السنة) جملة وتفصيلا ويرحم الله الدكتور محمد تقي الدين الهلالي الذي قال: ” هذه الآية من أعظم الحجج على المقلدين وأصحاب الطرائق والأحزاب التي ينتسب أفرادها على الإسلام، هؤلاء إذا خالفوا حكما واحدا مما حكم الله ورسوله به؛ فلا عجب إذا غلبت خمس عشر مليونا -وهو عدد اليهود في الدنيا كلها- سبعمائة مليون يدعون الإسلام([8]) ويحكمون بغير ما أنزل الله علانية، وقد بان لهم البرهان في الهزائم المتوالية عليهم، وفي ذلتهم وهوانهم على الناس لو كانوا يعقلون. فنسأل الله أن يبصرهم من العمى ويهديهم من الضلال.” ([9]).
-يتبع بحول الله-
———————————————————-
([1]) – الرسالة التبوكية، ص: 41-42.
([2]) – مدارج السالكين، (2/503).
([4]) – إعلام الموقعين عن رب العالمين(1/105).
([5]) – الرحلة إلى إفريقيا:52.
([6]) – الجامع لأحكام القرآن (14/187).
([8]) – تزداد الحسرة إذا علمنا انهم اليوم أكثر من ضعف هذا الرقم.