جاءت الشريعة الإسلامية الغرَّاء بتحريم الربا بشتى أنواعه كما هو معلوم، وقد اقتضت حكمة الله تعالى الحكيم الخبير أنَّ تشتمِل كافة المحرَّمات والمنهيات المنصوص عليها على أسرار وحكم في تشريع هذه الأحكام، سواءً عَلِمها المكلفون أم جهِلوها.
ولذا، فإن الربا يشتملُ على جُملةٍ من الأضرار المادية والمعنوية، تَطالُ الأفرادَ والمجتمعات على حدٍّ سواء. وربُّنا جلَّ وعلا ما حرَّمهُ إلاَّ لما فيه من تلكم المفاسد والأضرار، فهو سبحانه يعلمَ السِرَّ وأخفى، قال تعالى: ﴿أَلاَ يَعلمُ مَن خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِير﴾[1] وقال سبحانه: ﴿وَالله يَعلَمُ وَأنتُم لاَ تَعلَمونَ﴾[2] فالواجب على كل مسلم أن يُذعنَ لِحُكم الله ورسوله، قال جلَّ وعلا: ﴿وَما كانَ لِمُؤمِنٍ وَلاَ مُؤمِنَةٍ إذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمرًا أَن تَكُونَ لَهُم الخِيَرَةُ مِن أَمرِهِم﴾[3] والواجبُ عليه أيضًا أن يعلمَ يقينًا أنه تعالى لا يُحرِّم شيئًا إلاَّ لما فيه من الضَّرر للعِباد سواءٌ في عاجِلِهم أو آجِلِهم.
ومن أبرزِ الحِكم الظاهرة في تحريم الربا: أنَّه انتهاكٌ لِحُرمةِ مالِ المُسلم، بِأخذِ الزَّائد مِنه مِن قِبَل المُرابي. فالرّبا هو في الحقيقة أخذُ مالٍ في مُقابل مالٍ آخرَ دونَ عِوَض أو عَمل.
وقد أرادَ الإسلام أن يكون رِبحُ المالِ مُقترِناً ومقابلاً لِلعَمل، بحيث لا يحصلُ أي نوعٍ من الضرر على الفقراء من الناس، أو أن يزدادَ مستوى الاحتياج والفَقر لديهِم، في مقابلِ ازدياد الغِنى لدى طبقةِ المُرابين وأصحابِ المال، والذين يَتسبَّبُ تعاملُهم الرِّبَوي في تعطيل مختلفِ المكاسِب والحِرَف والصِّناعات التي يحتاجُها عامّة الناس. لذا قال الغزالي: “وكلُّ مَن عاملَ معاملة الربا على الدَّراهم والدنانير فقد كفرَ النَّعمة وَظلمَ لأنَّهُما خُلِقا لِغَيرهما لا لنفسِهما؛ إذ لا غرضَ في عَينِهما. فإذا اتَّجر في عينِهما فقد اتخذهُما مقصوداً على خلاف وضعِ الحكمة؛ إذ طلبُ النَّقدِ لغيرِ ما وُضِع لهُ ظلمٌ”[4].
كما أن القروض الرِّبوية سببٌ رئيسٌ في انقطاع المعروف والإحسان بين الناس، كما يشهدُ لذلك الواقع المجتمعي.
ويتجلَّى ضررُ الربا كذلك على مستوى المجتمع؛ فيما يُعرفُ بمشكلة “التَضَخُّم”؛ وهو فقدان القدرة الشرائية لدى المستهلك مع مُرور الوقت، بسبب غلاء الأسعار المتواصل[5]؛ وهو الأمرُ الذي تُعاني مِنهُ كثير من الدول والمؤسسات المالية الكبرى.
ومن الأضرار الناتجة عن الربا أيضا؛ أن هذا الصِّنف مِن المُرابين والمُقرضِين لا يدخلون في أي نوعٍ من أنواع المُخاطراتِ أو الضَّمان بما يمتلكونهُ مِن رؤوس الأموال، فليس لهُم إلاَّ الرِّبح. والقاعدة الفقهية في هذا الباب أنَّ: “الغُرمَ بالغُنم”[6]، وهو الشيء الذي لا يَسري عليهِم؛ إذ لا يعرفون من القروضِ إلاَّ الغُنم فقط، فلا مخاطراتٍ بالمالِ لديهم ولا ضمان ولا غُرم!.
ومن الأضرار الاجتماعية للمعاملات الربوية كذلك؛ أنها تورِّثُ البغضاء والحِقد بين أفراد المجتمع لما يلحظُه الفقير المُقترِضُ من الطَّمعِ والجشَعِ لدى المُرابي وحِرصِه على الزيادة في الفوائد الرِّبوية كلما وجدَ فرصةً لذلك، وبالتالي التضييق على الفقير وَأسرُهُ في دَينِه لمدة أطولَ قد تصِلُ إلى سنواتٍ عديدة.
ومن أمثلة الأضرار الناتجة عن الربا على المستوى الدَّولي؛ ما يقدِّمهُ “البنك الدولي” من تمويلٍ على شكل قروض بزيادات ربوية (فوائد) إلى الدول النامية أو التي هي في طريق النمو، وذلك تحتَ غطاءاتٍ وتسمياتٍ مختلفة: (المبادرة التنموية، التنمية القروية… الخ). وبما أن هذه الفوائد الربوية على القروض في زيادات مستمرة؛ خاصة مع عدم قدرة الدول على سَداد دُيونها نحو البنك، تحولت هذه القروض إلى نِسَبٍ أكبرَ بكثير من رأس المال الأصلي، وبلغت الديون التي في ذمّة هاته الدول مبالِغَ خيالية عجزَت معها عن السدَّاد كُلِّيًا (مثاله: الأزمة المالية بِالمكسيك سنة 1988)[7]. فلجأ “البنك الدولي” مع هذا الواقع الجديد إلى سياسة ما يُسمَّى بِ: “التقويم الظَّرفي”، فكان أول قراراتِه التدبيرية هو تجميد أجور موظفي القطاع العام ونَهجِ سياسات تقشُّفية فرضَها بقوة المال على الحكومات والدول! وما هذه السياسات إلاَّ وسيلة لاستِعباد الشعوب والنَّيلِ مِن كرامتِهم بالتضييق على مصادر عَيشهِم وأرزاقِهم، وهو ما يُصطُلِحَ عليه بالعبودية المالية. وقد نتجَ عن ذلك اضطرابات وفتنٌ وقلائل كثيرة في هذه الدول المتضررة للأسف، كما هو مُشاهدٌ ومعلوم.
وخلاصة القول في الحكمة من تحريم الربا “أنَّ الشريعة مَنعت مِنهُ لِدَرءِ ما يقعُ بواسطتِه من المفاسد في الأموال التي جعلها الله للناس قيامًا، وبخسِ الناس أشياءهم، ولكونهِ ضررًا في المال، يتعدَّى إلى الضَّررِ بِالنَّفس”[8].
[1] – سورة الملك: (14)
[2] – سورة البقرة: (216)
[3] – سورة الأحزاب: (36)
[4] – “إحياء علوم الدين” (4/92)
[5] – انظر لتعريفه مثلا: مقال بموقع أدميرال ماركت لرشيد ركان على الشبكة العنكبوتية.
[6] – والمراد من القاعدة: “أن التكاليف والخسارة التي تحصل من الشيء تكون على مَن ينتفع به شرعًا؛ أي: إن مَن ينال نفعَ شيءٍ يجب أن يتحمل ضررَه”. انظر “الأشباه والنظائر” للسيوطي (ص: 235) و”الأشباه والنظائر” لابن نجيم (151)
[7] – انظر في هذا الصدد: “الأزمات المالية العالمية” رسالة دكتوراة لإيمان محمود، جامعة سانت كليمانس – العراق، 2011. و”الأزمات المالية والاقتصادية وآليات المواجهة” للدكتور عثمان أحمد عثمان، منشور بمجلة روح القوانين، العدد 94، أبريل 2021.
[8] – انظر في ذلك كلام الرازي في “تفسيره” (7/94-95)