المتتبع لبرنامج تحقيق حول الحجاب يدرك أن الخلاصة التي أراد معدو البرنامج ومن استضافوه من الباحثين الوصول إليها، تتمحور حول التشكيك في فريضة الحجاب، وأنها أمر غير محسوم فيه بين الفقهاء وعلماء الإسلام، وأن ارتداءه أو إزالته أمر شخصي لا إنكار لأحد فيه على أحد، فكيف يسوغ للبعض إنكار التبرج والسفور؟
والحقيقة أن ادعاءهم الخلاف في فرضية الحجاب وأن الأمر فيه غير محسوم كذب وزور؛ فوجوب الحجاب من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة، تماما كوجوب الصلاة وصيام رمضان، فمنذ نزول آية الحجاب والأمة الإسلامية تعتقد وجوبه، يأخذ ذلك جيل عن جيل، حتى جاء قرن “بوهندي” وأمثاله، فإذا بهم يأتوننا بما لم تسمع به أذن التاريخ الإسلامي، ويدّعون الخلاف في مواطن الإجماع، فالحق الذي لا ريب فيه أنه لا خلاف بين العلماء من أصحاب المذاهب الأربعة وغيرهم، في وجوب ستر ما سوى الوجه والكفين، فمن ادعى وجود خلاف بين العلماء فليأت به، وهذه أقوال أصحاب المذاهب الأربعة:
1- مذهب المالكية: قال الخرشي في شرح مختصر خليل (1/346): “..والمعنى أن عورة الحرة مع الرجل الأجنبي جميع بدنها حتى دلاليها (ما تدلى واسترسل من شعرها) وقصتها (شعر الناصية)، ما عدا الوجه والكفين ظاهرهما وباطنهما” وانظر عيون المجالس للقاضي عبد الوهاب (1/311)، والشرح الصغير للدردير1/289، والتفريع لابن الجلاب المالكي (1/240)، والتمهيد لابن عبد البر 6/364، و ما شئت من كتب المالكية، (للتوسع انظر “حجاب المرأة في المذهب المالكي” للشيخ مصطفى باحو).
2- مذهب الحنفية: قال الكاساني في بدائع الصنائع (5/121): “وأما النوع السادس وهو الأجنبيات الحرائر فلا يحل النظر للأجنبي من الأجنبية الحرة إلى سائر بدنها إلا الوجه والكفين”. وانظر أيضا: تحفة الفقهاء3/333، وشرح معاني الآثار للطحاوي3/16، وما شئت من كتب الحنفية.
3- مذهب الشافعية: قال الشافعي في الأم1/183: “كل المرأة عورة إلا كفيها ووجهها”، وقال الشيرازي في المهذب 1/123: “وأما الحرة فجميع بدنها عورة إلا الوجه والكفين لقوله تعالى : “ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها”، وانظر أيضا المقدمة الحضرمية ص76، وما شئت من كتب الشافعية.
4- مذهب الحنابلة: قال المرداوي في الإنصاف1/453: “صرح المصنف: أن ما عدا الوجه والكفين عورة وهو صحيح وهو المذهب وعليه الأصحاب”. وانظر المغني لابن قدامة1/637، ومنار السبيل في شرح الدليل (2/107) لابن ضويان، وما شئت من كتب الحنابلة، ولهم في الوجه وفي الكفين قول آخر يعتبرهما عورة.
هذا مذهب الأئمة وأتباعهم، إذن، فوجوب ستر ما عدا الوجه والكفين على المرأة مجمع عليه بين العلماء، والأمر فيه محسوم محسوم محسوم…(حتى ينقطع النفس).
ومن البديهي عند صغار طلبة العلم أن لكل مذهب أصوله التي تبنى عليها فروعه، من كتاب وسنة وإجماع وقياس…وليس من هذه الأصول التغيرات المناخية، أو التضاريس الجغرافية، أو الحقبة التاريخية، أو الأحوال النفسية والاجتماعية للمفتي، فهذه أصول بوهندي التي يريد أن يعيد قراءة النصوص بها، ليأتينا بدين لم يخطر على بال مسيلمة الكذاب.
ولا ينبغي أن نخلط بين ما يريده بوهندي وبين قضية تغير الفتوى عند العلماء بتغير الزمان والمكان والعوائد والأحوال، فإنه لا علاقة بين الأمرين إطلاقا، لأن تغير الحكم عند العلماء مرتبط بتغير مناط الحكم، أي بتغير المعطيات المؤثرة في الحكم، وليس بمطلق التغير، فالحكم يدور مع علته وجودا وعدما، فليس كل تغير يغير الحكم، فالزمان والمكان مثلا لا يمكن أن يؤثرا في تحريم الخمر والزنا والربا، وكذلك لا يمكن أن يؤثرا في حكم التبرج لأن علة تحريمه وهي سد ذريعة الزنى ما زالت قائمة ما دامت في الرجال شهوة، فإذا تغير الزمان وصار الرجال كلهم ما بين عِنِّين (لا يشتهي النساء) ومَجْبُوب (مقطوع الذكر) ومَخْصِي (مقطوع الخصيتين) فلكل مقام مقال، ولكل حادث حديث.. لا أشهدنا الله وإياكم ذلك الزمان.
ولما كان الحكم يدور مع علته وجودا وعدما فإن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لمخنث بالدخول على نسائه حين ظن أنه من غير أولي الإربة من الرجال، فلما تبين له خلاف ذلك منعه من الدخول عليهن.
عن أم سلمة رضي الله عنها: “أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عندها وفي البيت مخنث (الذي يشبه النساء في كلامه وحركاته)، فقال المخنث لأخي أم سلمة عبد الله بن أبي أمية: إن فتح الله لكم الطائف غدا، أدلك على ابنة غيلان، فإنها تقبل بأربع وتُدبر بثمان (يشير إلى بدانتها وتجاعيد بطنها)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يدخلن هذا عليكن” متفق عليه، هكذا فليكن الفقه، وليس كما يريد بوهندي أن يجعلنا جميعا مخنثين من غير أولي الإربة.
ونذكِّر هنا أن بوهندي لم يكتف بالطعن في نصوص القرآن والسنة وتحريف معانيها، بل سبق له وأن طعن في ناقليها من الصحابة الكرام في كتابه “أكثر أبو هريرة”، اتهم فيه الصحابي الجليل أبا هريرة بالكذب وأشنع الصفات..
ولله درُّ القاضي عبد الوهاب بن علي المالكي رحمه الله إذ يقول:
متى يصلُ العِطاشُ إلى ارتواءٍ *** إذا استَقَتِ البحارُ من الرَّكايَا
ومن يُثْنِي الأصاغِرَ عن مُرادٍ *** إِذا جلس الأكـابرُ فى الزَّوايَا
وإنَّ ترفع الوضَعَـاء يـوماً *** على الرُّفَعَاء من إحدى الرَّزَايَا
إذا استوتِ الأسافلُ والأعالي *** فقد طابت مُنَادَمَةُ المَنَايـا