انطلاقا من أن الشريعة الإسلامية شريعة العدل والإنصاف، مُصلحة لكل زمان ومكان، وشاملة لمجالات العبادة والمعاملات والأخلاق، تعالج مختلف القضايا الدينية والدنيوية، وتؤطر حياة الناس وتنظم شؤونهم انطلاقا من الإيمان وانتهاء بآداب قضاء الحاجة، فإنها لم تغفل أبدا طرق موضوع الحرية.
فما أن نسمع تلك الكلمة حتى نتذكر على الفور قولة الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه التي قالها لعمرو بن العاص رضي الله عنه، حين اعتدى ابنه محمد على أحد الناس وضربه بالسوط، ثم جعل عمرُ الرجل يأخذ حقه من ابن عمرو بن العاص فضربه بالدرة واستوفى واشتفى، وقال عمر رضي الله عنه كلمته الشهيرة: “أُيا عمرو! متى تعبَّدتُم الناس وقد ولدتهم أُمهاتهم أَحراراً”(1)، لعل كلمة عمر بن الخطاب رضي الله عنه يومَها مازالت تدوِّي ملءَ العصور والأَجيال، تعلم الناس نموذجاً رائعاً من نماذج الحرِّية.
إن النموذج الأمثل للحرّية والصورة الصادقة النقيّة، لم تعرفها البشرية في تاريخها الطويل إلا بما دعا إليه الرسل والأنبياء، ولم يحملها إلى الناس إلا رسالة الله إلى عباده وخلقه، ولم يُطبقها في واقع الإنسان إلا الأنبياء والرسل وأصحابهم ومن حمل الرسالة من بعدهم وصدق الله في حملها، دون تحريف أو تبديل.
فالحرية الحقيقية الطاهرة الصادقة مرتبطة كل الارتباط بالإيمان والتوحيد وأسسهما، مغروسة في الفطرة السوية التي فطر الله الناس عليها، إذا لم تنحرف أو تشوه أو تفسد..
من هنا تأخذ الحرِّية معناها الإيماني حين ترتبط في فطرة الإنسان بالإيمان والتوحيد، وتأخذ بُعدَها الإنسانيَّ حين أَودعها الله فطرة الإنسان، لتأخذ حقيقة هذا البعد وجوهره..
فالإسلام الذي حرّر الإنسان من داخله وحرّر روحه وعقله وكيانه كله من الأغلال الباطلة والقيود الظالمة، أَطلق الحرية في ميادين الحياة نديّة بالإيمان غنيّة بالتوحيد لتهب الحياة الجمال الحق، ولتهب الإنسان المتعة الطاهرة الدائمة الممتدة..
فلا بد إذن أن تتوافر في واقع أَي أُمة خصائص الإيمان والتوحيد، ووسائل رعاية الفطرة وحمايتها، ليكون هذا كله أَولَ حقٍّ من حقوق الإنسان.. إنه حقٌّ أَهملته الجمعيات والهيئات التي تنادي اليوم بحقوق الإنسان، وأهملته قوى الحداثة والعلمنة التي أَطلقت الأَهواء والشهوات لتنسلَّ خدراً في العروق، تشل قوى الإنسان وتسحق جوهره.. ثم يقال له أنت حرّ بعد أن كبّلوه وقيّدوه وخدّروه ورموه في لهيب مضطرم.. فمارسوا بذلك أسوأ أنواع الاستبداد والظلم في تاريخ الإنسان..
قد تُخنق الكلمة بتكميم الأَفواه، أو في ظلمة السجون، أو تحت سياط القهر والتعذيب.. وهذه جريمة كبيرة حين تكون الكلمة حقاً وأمانة وبلاغاً وقوة، وصدقاً وعبادة وتقوى.. ولكن خنق الكلمة في داخل الإنسان وهو طليق جريمة أكبر في حق الإنسان، لأنها تكون عندئذ جريمة تمتدّ في الأرض على غيبوبة وخدر، أو هلع وحذر، لا يكاد يحس بها الناس، أو يعتادونها فيألفونها، ويمضي المجرمون في طغيانهم وعُتوّهم واستكبارهم، حتى يأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر..
من هنا ترتبط الحرّية بكل المعاني التي يتغنّى بها الناس والشعارات التي يرفعونها لتظل صادقة بها أَمينة معها..
ومن هنا تأخذ الحرّية معناها الكامل ومحتواها المتكامل والمترابط، وممارستها المتناسقة..
فإذا انفصلت عن هذا المنبع الغني الذي يرويها انقلبت فتنةً في الأَرض وفساداً، وانفصلت عن خصائصها ومقوّماتها، وأَخذت خصائص جديدة من الشرِّ والانحراف والفتنة..
إنه حين يعطي الله سبحانه وتعالى الإنسان حرّية الاختيار، ويوفّر له كلّ أَسباب ممارستها، فإنه لا يتركه مع حرِّيته هذه متفلتا من مسؤولية اختياره.. بل يجعل الله لكل اختيار يمضي إليه الإنسان نتيجة جليّة وجزاء عادلاً لا يستطيع أَن يفرّ منه أَبداً.. ويمضي هذا الجزاء في الدنيا على سنن لله ثابتة، علمنا الله بعضها في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وفي الآخرة إلى إِحدى نتيجتين -جنّةٍ أَو نار- لتمثل كل نتيجة منهما حصاد اختيار الإنسان في الحياة الدنيا.. (انظر: الحرية في ميزان الإسلام، الدكتور عدنان النحوي).
إن الحرية الحقة ليست هي تعبيد العبيد للعبيد، وجعلهم منقادين لمَن هم ربما أقل منهم شأناً، يُشرَّعون ويُقنَّنون ويُحرَّمون ويُحلون، وإنما الحرية الحقة هي تحرير العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد الذي خلقهم ورزقهم ويعلم ما يضرهم وينفعهم، وما يصلحهم ويفسدهم {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}الملك.
فلا سعادة أبدية خارج أسوار العبودية لله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- هذه القصة أخرجها ابن عبد الحكم في فتوح مصر (ص:183) من طريق أبي عبدة عن ثابت البناني عن أنس عن عمر بلفظ: “مذ كم تعبدتم الناس..”، وفيها ضعف.
فأبو عبدة هذا هو يوسف بن عبدة، قال فيه أحمد: له أحاديث مناكير عن حميد وثابت، وكأنه ضعفه.
وقال أبو حاتم: شيخ ليس بالقوي، ضعيف.
وقال العقيلي: له مناكير.
وفيها انقطاع بين ابن عبد الحكم وأبي عبدة، وفي متنها نكارة.