محل الخلاف الرئيسي بين المسلمين ودعاة الدولة المدنية يتمثل في رفض العلمانيين التام لتدخل الدين في السياسة؛ وإصرارهم على عزله داخل دور العبادة كما نظر لذلك تماما سلفهم جون لوك، وجعل قوانين وتشريعات الدين مجرد أحكام عقلية لا تتحول إلى قوانين ملزمة إلا إذا اختار ذلك الحاكم المدني كما يقول هوبز واسبينوزا.
ولا بد من التنبيه هنا على أمر مهم وهو أنه لا شك في كون الكنيسة وطبيعة تشريعاتها وطبيعة الخلاف بينها وبين الحكم الزمني هي أساس هذا النظر الفلسفي، لكن عبارات الفلاسفة المذكورين يشير إلى أنهم لا يقصدون بالدين النصرانية فقط؛ أو أنهم قد يقبلون مرجعية أخرى دينية أو أخلاقية؛ بل نصوصهم واضحة في رفضهم لأي سلطة مقيَِّدة لقوانين الحاكم؛ سواء من قال منهم أن القوانين يضعها الحاكم بنفسه، أو من قال منهم باشتراك الحاكم والسلطة التشريعيَّة البرلمانية في وضعها، وسواء من نصح بالاستهداء بالعقل والقانون الطبيعي منهم، ومن لم ينصح، فالقدر الثابت هو رفضهم جميعا لأي مرجعية متجاوزة دينية أو أخلاقية تكون لها سلطة أعلى من السلطة التشريعية، فالأمر قد تجاوز النصرانية إلى مطلق الدين والمرجعيات المتجاوزة.
فلابد من التنبه لهذه الحقيقة؛ لكي نكتشف بسهولة بعد ذلك خطأ صياغة بعض كتاب الإسلام السياسي لمفهومهم للدولة المدنية.
والإسلام يرفض بشكل مطلق وتام عزله عن الحياة المدنية والسلطة التشريعية، فالإسلام دين تام شامل ومهيمن على جميع مناحي الحياة؛ {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ}؛ يحكم بالنص تارة، وبالسكوت والعفو أخرى، والحاكم في الشرع له نطاقان في التشريع:
الأول: الاجتهاد في فهم ما نصَّ عليه من أحكام الشرع وتطبيقه.
الثاني: الاجتهاد في التشريع للأمة فيما لا نص فيه؛ وفيما سكت عنه الشرع.
ونصوص الوحي الدالة على ذلك التقرير السابق أشهر من أن تُذكر.
وبالتالي فمفهوم الدولة عند هؤلاء الفلاسفة ومن تبعهم من العلمانيين عموما؛ هو مفهوم لدولة مدنية مطلقة عن أي مرجعية متجاوزة، وهذا المفهوم المتغول المتوحش لا يقبله الإسلام، ويرى فيه تضييعا لحق الشعوب، وإهدارا لكرامتهم، وتحكما في مصيرهم، فكيف يقبل مسلم يؤمن بأن أحكام القرآن الكريم والسنة الصحيحة من عند الله؛ ثم يستبدل ذلك بنتاج عقول قاصرة يستحيل موازنتها -أستغفر الله- بل مجرد مقارنتها بشرع الله الذي اختاره لعباده.
مع تفريق الإسلام الدائم والمستمر بين الوحي، وبين فهم المجتهدين للوحي، فلا يعطي لهذا الفهم قداسة بمجرده، وإنما بما مع هذا الفهم من الحجج الدالة على أن هذا الفهم هو مراد الله بالوحي.
فهذه الدولة المطلقة عن أي مرجعية، أو التي تتعامل مع الدين بالاختيار ومجرد الذوق والهوى لا يقبلها الإسلام ويراها جاهلية ما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلا لإزالتها. ( الدولة المدنية مفاهم وأحكام؛ لأبي فهر أحمد سالم).