الدور الأمريكي في الأزمة الصومالية

بعد أفول الشمس السوداء للإمبراطوريات البريطانية والفرنسية، ظهرت على الساحة أقطاب جديدة للصراع، وكان الإتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية هما اللاعبان الرئيسيان في الحلبة، وفي محاولة كل منهما السيطرة على أكبر قدر ممكن من الأرض والثروات، لم تفلت منطقة الحبشة والقرن الإفريقي من هذا الإستقطاب الثنائي.

فأرض الحبشة حيث منابع النيل شريان الحياة في مصر والسودان، والبحر الأحمر وقناة السويس حيث قنطرة المرور بين الشرق والغرب، والبترول والغاز الطبيعي عصب الحياة الصناعية، واليورانيوم الذي يدخل في الصناعات النووية، والأراضي الشاسعة الصالحة لدفن مخلفات هذه الصناعات النووية، وأهم من ذلك كله الرغبة الأمريكية/الصهيونية في تأمين حدود الكيان الصهيوني وتجفيف منابع الإلتزام بالدين والحركة الإسلامية في إفريقيا والعالم العربي، بالإضافة إلى محاولة تطويق السوفيت آنذاك الذين تحالفوا مع النظام المصري في الخمسينات والستينات، كل هذه العوامل جعلت من هذه المنطقة مطمعا للأمريكان.
فَهِم الإمبراطور الإثيوبي الهالك “هيلا سيلاسي” اللعبة فسارع إلى الارتماء في أحضان الأمريكان حيث وقف في الكونجرس عام 1954م ليقول: “إن إثيوبيا جزيرة مسيحية تقع في وسط بحر من المسلمين”. ولم تخيب أمريكا ظنه فقد كانت متشوقة لموطئ قدم لها في هذه المنطقة، لاسيما والإتحاد السوفيتي كان قد بدأ في تكوين ولاءات له في الصومال تبلورت حينما استولى “سياد بري” على الحكم وأعلن الشيوعية نظاما في الصومال.
ومعروف أن السياسة فن الممكن وربُّها هو المصلحة، فبعد استيلاء الشيوعيين في إثيوبيا على الحكم بعد هلاك “هيلا سيلاسي” وسقوط حكمه على يد الإمبراطور “منجستو هيلاميريام” عام 1974م، تحولت إثيوبيا جهة السوفيت، والصومال جهة الأمريكان الذين حاولوا زرع حكومة عميلة جديدة تحكم الصومال بأسره، ولكن مجهوداتهم لم تنجح بنسبة مائة في المائة نظرا لطبيعة التوترات الدائمة في المنطقة، ومنذ ذلك الحين والولايات المتحدة الأمريكية تكثف وجودها غير المباشر في المنطقة من خلال مئات الجواسيس والعملاء التابعين لأجهزة المخابرات المركزية الأمريكية، وكذلك من خلال الوجود الدبلوماسي المكثف في دول الجوار كجيبوتي وإثيوبيا وكينيا من أجل متابعة ما يجري في الصمال عن قرب.
وزاد من هذا التوجه الهزيمة المدوية التي لقيها الأمريكان في عام 1992م حينما حاولت الإطاحة بـ”محمد فارح عيديد” المدعوم من إثيوبيا حيث أيقنت بصعوبة التواجد العسكري المباشر في المنطقة، وأيضا كانت مشغولة بمتابعة ما يجري في الشرق حيث الحرب العراقية/الكويتية وكذلك ثورة الترابي/البشير في السودان، ثم بعد حوادث تفجير للسفارات الأمريكية في كينيا وتنزانيا، وظهور اسم تنظيم القاعدة في السودان ثم أفغانستان، وما تلا ذلك من قصف جوي للسودان، وحوادث تفجير الأبراج في أمريكا نفسها، والحرب على أفغانستان ثم العراق، وما لاقته أمريكا من صنوف المقاومة، ومخاوف لجوء مقاتلين من تنظيم القاعدة إلى الصومال، كل هذه التلاحقات دفعت أمريكا إلى أن تبقى بعيدة عن مباشرة دورها بنفسها في هذه المنطقة، وإن كانت ربيبتها إثيوبيا تقوم بالدور المطلوب لقاء المقابل المعلوم وهو: دعم بقاء السلطة واحتكارها للثروات الوطنية، والمساعدة في ملاحقة المعارضين، أو على الأقل السكوت عن التنكيل بهم، وهو الثمن الأكثر شهرة في دنيا السياسة الدولية حاليا.
ولكن بعد صعود “المحاكم الإسلامية” على مسرح الأحداث وتغلبها على الحكومة الانتقالية العميلة لجأت أمريكا إلى إنشاء قاعد عسكرية لها في جيبوتي، وكذلك إلى التعاون مع أمراء الحرب الذين سبق أن نكلوا بجنودها في الصومال، ولا عجب ففي السياسة ليس هناك صديق دائم أو عدو دائم، فقامت أمريكا برصد ملايين الدولارات من أجل ذلك الغرض، وأغرقتهم بالمال والسلاح كي يقفوا في وجه “المحاكم الإسلامية” حتى لا تتحول إلى طالبان أخرى، وتتحول الصومال إلى أفغانستان أخرى!
وعلى الطرف الآخر استمر دور الحليف الصليبي الإستراتيجي لأمريكا والكيان الصهيوني في المنطقة؛ وهي حكومة إثيوبيا التي تولت الحرب بالوكالة على الصومال.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *