ثلاثية الشيطان 1/3 أبو عبد الرحمن عبد الحق كـدام

ما ضل من ضل من الناس إلا بعد أن تركوا كتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم واتبعوا السبل المضلة، قال تعالى: ” ﭺ ﭻ ﭼﭽ ﭾﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆﮇﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ” الأنعام، فسبيل الله عز وجل واحد لا يتعدد وكم هي كثيرة تلك السبل المخالفة. وإن الباحث المدقق في مناهج سالكي هذه السبل سيجد حتما سبب ضلالهم نهلهم من منبع خبيث، معروف من القدم بأن رواده هم مخالفو ومحاربو الرسل وورثتهم من العلماء والفقهاء وطلبة العلم.

وهذا المنبع عبارة عن ثلاثية مسمومة حالقة للدين مبعدة عن النهج القويم، وأول أضلاعها ما استفحل شره في هذا الزمان ألا وهو تقديم العقل على النقل، وثانيها إتباع الهوى، وثالثها الانصياع وراء الشهوة.
فكم أردت وأهلكت هذه الثلاثية من أقوام، ولازالت جحافل وصفوف ضحاياها تترى لحد الآن، قال تعالى: “أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا” محمد، وقال صلى الله عليه وسلم: “تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك” (أخرجه ابن ماجه وصححه الألباني في الصحيحة)، فكما أنه لن تجد أبدا لبنا بلون أسود، فكذالك لن تجد حتما مسلما صادقا مقدما للعقل على النقل أو متبعا للهوى أو منصاعا وراء الشهوة.
ماهو العقل وما هي حدود استعماله؟
العقل من أعظم النعم التي امتن الله بها على العباد، وأمر باستخدامها استخداما في محله غير مخرج عن حده قال تعالى: ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭼ البقرة، فالعاقل اللبيب دائما ينظر إلى الأشياء نظرة تعبد وتدبر واستفادة، إذ من أجل هذا خلق العقل، وصريحه لا يخالف أبدا صحيح النقل، ومن هذا ما ذكره ابن كثير رحمه الله تعالى في مقدمة التفسير عن بعض الأعراب وقد سئل عن وجود الله عز وجل فقال: “يا سبحان الله! إن البَعْر ليدل على البعير، وإن أثر الأقدام ليدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، ألا يدل ذلك على وجود اللطيف الخبير”، وإذا رجعنا إلى تفاسير السلف للعقل نجدها تتواءم وتتناسب جميعها مع بعض، وتخرج من مشكاة واحدة مشكاة الكتاب والسنة.
ذكر ابن أبي الدنيا في كتابه (فضل العقل)، عن ابن جريج أنه قال: “قوام المرء عقله، ولا دين لمن لا عقل له”.
وقيل لبعض الحكماء ما العقل؟
قال: “أمران أحدهما صحة الفكر في الذكاء والفطنة، والآخر حسن التمييز وكثرة الإصابة”.
فإذن العقل في الشرع هو ما رجع بالخير على صاحبه، والمقصود بالخير: رضى الله عز وجل، إذ لو رضي عنك لأرضاك.
ومن خلال ما تقدم قد يطرح سؤال وجيه، وهو:
في أي حال يمكن أن يستعمل المسلم العقل؟
وإلى أي حد يقف؟
والجواب الذي أجمع عليه أهل العلم هو أن العقل ما خلق إلا لاستعماله، ولكن هناك حمى وحدود إن تعداها أهلك الحرث والنسل، وربما قد يبطل معظم أصول الدين، وحتى لا ينجر المسلم وراء عقله حدد العلماء أولويات تتقدمه.
1- القرآن الكريم
فقد أجمع المسلمون قاطبة على أنه كلام الله عز وجل وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، ومن رده فقد رد أمر الله تعالى.
2- السنة النبوية
وهي أصل من أصول الدين فيجب اتباعها ويحرم مخالفة الواجب منها، وعلى ذلك أجمع المسلمون وتضافرت الآيات على وجه لا يدع مجالا للشك، فمن أنكر ذلك فقد نابز الأدلة القطعية واتبع غير سبيل المؤمنين، قال تعالى: ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭼ النساء.

3- الإجماع
وهو اتفاق جميع المسلمين في عصر من العصور بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم على حكم شرعي في أمر من الأمور.

4- الرأي أو القياس أو استعمال العقل
وهو آخر المصادر بعد المرور بالكتاب والسنة وإجماع الأئمة، وشرطه أن يكون مستعمله عالما فقيها متقنا للغة وأصولها، عارفا الناسخ من المنسوخ، والمقطوع من الموصول، والمقيد من المطلق، والخاص من العام، بالإضافة إلى العدل والتقوى وهما شرطان أساسيان، فهكذا كان أبو بكر وعمر ومالك وأحمد، وغيرهم من المجتهدين ولا عبرة بقياس من لا تتوفر فيه هذه الشروط.

مفاسد تقديم العقل على النقل
إذا لم يترتب على هذا التقديم إلا مفسدة واحدة وهي تعطيل النصوص الشرعية فأعْظِم بها من مصيبة، لأنها كفيلة بأن تُرجع الناس إلى الجاهلية الأولى حيث لا شرع ولا حياء ولا حدود، وحتى أثبت ذلك أضرب أمثلة بالمفاسد والفضائح التي جرتها العلمانية على الأمة وكلنا يعلم أن العلمانية هي الحاضنة الأولى لهذا الفكر الدخيل وما خرج إلا مِن رحِمها، فَتَحْت راية هذا الفكر حلل الزنا والخمر والربا والاختلاط والغناء واللواط والسِّحاق والتبرج والسفور وزواج الذكر بمثله، وكل هذا بدعوى حماية الحرية الفردية وحرية التفكير والتعبير، فرحين بمقولة: هُمْ رجال ونحن رجال، وذاك زمان وهذا زمان، ولكل زمان خصوصياته وضرورياته، والشواهد من كلامهم معروفة عند كل باحث، وعلى النقيض من ذلك أجازوا خروج المرأة عارية، واعتبروا سبَّ الدين والنيل من المقدسات حرية في التعبير، وأما مناسك الحج فهي عندهم من الوثنية القديمة، وبالنسبة لِلِّحية التي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بإعفائها فهي عبارة عن عفن ووسخ، وهذا فقط على سبيل التمثيل لا الحصر، هكذا يفعل العقل بصاحبه إذا ترك له العنان بدون قيد، وصدق ابن سيرين إذ يقول: “أول من قَاس إبليس وما عُبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس”، فقد أصبح الكلُ يتكلم ويجتهد، ومنهم من لا يتقن قراءة أصغر صورة في القرآن، وفي أمور لو كان عُمر الملهم المحدث العالم الفقيه الزاهد التقي لجمع لها أهل بدر، بل في أخرى أجمع عليها العلماء قاطبة، بل فيما حسم في الكتاب والسنة، وهو في دين المسلمين معلوم من الدين بالضرورة، ورحم الله ابن تيمية إذ يقول: “يجعل على الخبازين والطباخين محتسب ولا يجعل على الفتوى محتسب”، هذا والله تعالى أعلم، وهو حسبنا ونعم الوكيل. (يتبع)

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *