شاع في العصر المتأخر في كثير من محافل العلم والثقافة عدد من المغالطات والأباطيل التي يراد من ورائها زحزحة المسلمين عن دينهم وتشويه العقائد الخالصة لصد الناس عنها، هذه المغالطات تقدَّم بصورة يحسبها بعضهم علماً وما هي كذلك، ولهذا يجب كشف مثل هذه المغالطات وإظهار ما يهدمها من حقائق، ومن بين هذه الأخطاء:
أن الدين من اختراع العقل البشري، وأن الإنسان من سلالة -القردة، وأنه لا إله، وأن الكون خُلِق من تلقاء نفسه.
هذه المقولات من الأباطيل الشائعة التي تمتلئ بها غالب المصادر والمراجع التاريخية المقررة والمعتمدة في دور العلم الأجنبية والعربية، حيث يدَّعى أنه ليس من إله خالق لهذا الكون، ولا ملائكة، ولا وحي ولا رسل، والكون خلق مصادفة، والإنسان من سلالة الحيوان (القردة) التي تطورت عن الأحياء الدنيا التي نشأت في البرك والمستنقعات على مدار ملايين السنين، وأن الإنسان القرد كان في بداية نشأته محدود التفكير لا يتعدى تفكيره تفكير طفل صغير بلغ الخامسة من عمره، ولم يكن يميز بين الجمادات والكائنات الحية، وأن الدين من اختراع العقل البشري، وكذلك الزراعة واستئناس الحيوانات. (تاريخ العالم، إعداد “ج.أ. هامرتن”، معالم تاريخ الإنسانية إعداد هـ.ج. ولز، موسوعة تاريخ العالم، أشرف على إعدادها لانجر، قصة الحضارة و. ديورانت، الموسوعة الأثرية العالمية لـ”كوتريل”، حضارة مصر والشرق القديم، أ.د.محمد أنور شكري وآخرون).
وتزداد الأباطيل شناعة حينما يزعم “أدولف ارمان” في كتابه: “ديانة مصر القديمة” الذي ترجمه محمد أنور شكري ومحمد عبد المنعم أبو بكر أن الإنسان تعلم التدين من الحيوانات، ومنها تعلم لغة التخاطب، ومنها تعلم الزواج وإنشاء الأسرة والدولة، والملفت للنظر أن المترجمَيْن وهما من أبناء المسلمين لم يحاولا الرد أو التصحيح في ضوء التصور الإسلامي.
العجيب أن هذه الترهات وغيرها تدرس لبني الإنسان في جميع أقسام التاريخ والآثار في العالم تحت مسميات: “تاريخ وحضارة الشرق الأدنى القديم، تاريخ العصر الحجري، عصور ما قبل التاريخ، بلاد ما بين النهرين، مصر الفرعونية، تاريخ الشام القديم، الجزيرة العربية قبل الإسلام، تاريخ اليونان، الرومان، إلى غير ذلك” بوصفها مقررات دراسية دون فحص أو تمحيص.
والذين قاموا ويقومون بهذا التزوير لتاريخ العقائد والكون والإنسان وهم المستشرقون ومن سار على نهجهم يهدفون من وراء ذلك إلى ما حذر الله سبحانه وتعالى منه: “وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا” البقرة، وذلك تمهيداً للسيطرة الاقتصادية والسياسية وغيرها على ثروات الشعوب والأمم.
ماذا يترتب على التفسير اللاديني لتاريخ العقائد والكون والإنسان؟
إن كُتَّاب التاريخ الديني الذين تبنوا هذا التفسير اللاديني اعتماداً على الحدس والتخمين، واستبعاداً للقرآن والسنة، حريصون وهم يتبنون ذلك التفسير على هدم الإسلام بوصفه عقيدة ونظام حياة شاملاً: اقتصادياً، وسياسياً، وثقافياً، وتعليمياً وجهادياً، وهو مصلح لكل زمان ومكان، ومن ثَمَّ زعزعة ثقة بني الإنسان في رب العالمين، والملائكة والكتب والرسل عليهم السلام، مع تشويه تاريخ الأمة المسلمة باعتباره واقعاً تطبيقياً لذلك الدين، وتزييفه وبعثرته حتى لا تهتدي الأمة إلى ذاتها وغاياتها، منطلقين في ذلك من العداء للاتجاه الديني عامة والاتجاه الإسلامي على وجه الخصوص.
لقد ترتب على هذه المعتقدات الفاسدة قيام مقررات دراسية تتبنى هذه التصورات: علم الاجتماع، علم النفس والدراسات النفسية، علم الاقتصاد، وعلى هذه التصورات الفاسدة تقوم العلاقات الدولية. وعلى سبيل المثال لا الحصر على أساس أن بني الإنسان (الحيوانات) يعيشون في غابةٍ، البقاءُ فيها للأقوى لا للأصلح، ولعل هذا يفسر المنطق السائد الآن وهو اغتصاب أوطان بأكملها وثروات، وإبادة وتشريد لقطاع من بني الإنسان، بل واغتيال عقائد الأمم، إن هذا لا يثير حفيظة أحد، خاصة إذا كان المغتصَب هو الإنسان المسلم، وإذا كان الوطن المغتصَب هو الوطن الإسلامي، والثروة المغتصبة هي الثروة التي ادخرها الله للمسلمين ببلاد، لماذا؟ لأننا تعلمنا أننا في غابة مليئة بالحيوانات لا ضابط لها من دين أو خلق، والبقاء للأقوى، هذه هي المحصلة الثقافية التي تبثُّها كتب التاريخ المزور في أذهان النشء على امتداد العالم.
الشيء المؤسف والمحزن أن الذين قاموا بكتابة تاريخ الكون والعقائد والإنسان يشغلون أعلى المناصب في الجامعات ومراكز البحث العلمي، والذين قاموا بترجمة هذا الفكر الفاسد إلى لغتنا يحملون أعلى الدرجات العلمية، وهم الذين تحملوا تبعة تدريس هذا الفكر التاريخي الفاسد في الجامعات العربية والإسلامية، والذين ينتسبون إلى العروبة والإسلام لم يحاولوا إلا من رحم ربي أن يصححوا هذه الأخطاء.
إن من حق البشرية الضالة اليوم أن تحصل على صورة صحيحة لتاريخ البشر على الأرض، ومن الإجرام في حقها تزوير ذلك التاريخ، وإعطاؤها معلومات مضللة وخاصة في مجال العقيدة. ومن الأمانة العلمية أن يمتنع العلماء وخاصة الذين يرسمون للناس صورة القرون الخوالي عن تقديم كتابات يعلمون أنها غير صحيحة، كما أن من واجب القادرين إزالة أخطاء التاريخ وإزالة آثارها، وتصحيحها التصحيح الواجب، لأنه ليس من مصلحة الإنسانية أن ترى الحياة كلها من زاوية واحدة لا تكشف عن كل جوانبها، وأن تسودها فِكَر خاطئة عن ماضيها وحاضرها، وأن تجهل الدوافع الكاملة لسيرها وتحركها، والقيم الإنسانية لحياتها وحضارتها، وإن هذا الجهل ليُنشِئ أخطاء عميقة الأثر، لا في التصور والتفكير فحسب، ولكن في علاقات الأمم بعضها ببعض، وفي علاقات الكتل الدولية بعضها ببعض، كما ينشئ أخطاء بعيدة المدى في تكييف سياسة كل أمة وتوجيهها.
هذه الأخطاء ينشأ معظمها عن سوء دراسة التاريخ البشري، وسوء تقدير الدور الذي قام به الإسلام الذي يمثله العالم الإسلامي، هذا العالم الذي يمثل وحدة إنسانية شاملة لها خصائصها المستقلة، ويمثل قوة إنسانية ثابتة لا يؤثر ضعفها العسكري الطارئ إلا تأثيراً عارضاً في وزنها الحقيقي.
فما هو التصور الصحيح عن تاريخ العقائد وتاريخ الكون والإنسان؟
وما ينبني عليها من تكاليف؟
إن لهذا الكون إلهاً خالقاً متصفاً بكل صفات الجلال والكمال، وإنه خالق كل شيء: الكون والإنسان والملائكة والجن، وإليه يؤول مصير هذا الكون، وإن آدم هو أبو البشر خلقه الله وسواه على هذا النحو البديع، ورضي له الإسلام ديناً، واستخلفه في الأرض لمهمة وغاية وهي العبادة بمفهومها الشامل “وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ” (الذاريات)، وأخذ عليه العهد والميثاق أن يخضع حياته لمنهاجه وشريعته. يقول الله تعالى: “وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ” (الأعراف).
كما إنه سبحانه وتعالى لم يترك الإنسان هملاً، وإنما تعهده بالأنبياء والرسل يعرِّفونه بربه الحق ودين الحق: الإسلام، والسلوك الحق “وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ” (النحل).
أنظر “أخطاء يجب أن تصحح في التاريخ”
للدكتور جمال عبد الهادي