تكريس الصراع بين (حماية الهوية) و(علمنة المجتمع) ذ. محمد احساين مؤطر تربوي- باحث في قضايا التربية الإسلامية

التراجع عن ثانويات التميز والتهافت نحو البكالوريا الدولية
وجه من أوجه

سياق الحدث وطبيعته
من المعلوم بالضرورة في السياسة التعليمية المغربية حاليا أنها تنضبط بمرتكزات الميثاق الوطني للتربية والتكوين، وما نتج عنه من وثيقة إطار للتوجهات والاختيارات، باعتباره مرجعية تربوية لها من القوة ما يجعلها ملزمة لكل المخططين والمدبرين لمنظومة التربية والتكوين؛ لأنها مرجعية متوافق بشأنها بين أغلبية مكونات المجتمع.
وفي هذا الاتجاه سار البرنامج الاستعجالي (2009-2012) من خلال مجموعة من المشاريع التي اشتغل عليها كل الفاعلين، موقدة جذوة الحراك والنقاش والتكوين داخل المجتمع التعليمي، وكان يهدف إلى إعطاء نفس جديد لذلك الميثاق بعدما ظهرت في الميدان وأثناء تنزيله مجموعة من العوائق والإخفاقات؛ لكننا في الوقت الذي كنا ننتظر فيه فتح أوراش تربوية، تركز على مداخل الإصلاح واستمرارية تنزيل المشاريع وتقويم موضوعي علمي لمدى نجاعتها وفاعليتها، وتأثيرها على تجويد التعلمات، والرفع من مردودية المنظومة التربوية، خاصة مع تقرير البنك الدولي الذي أشار إلى أن الإصلاحات التي‮ ‬أطلقها المغرب منذ سنة‮ ‬1999،‮ ‬بداية من وضع ميثاق للتربية والتعليم‮ ‬يهدف إلى معالجة مشاكل القطاع، ‬والبرنامج الاستعجالي‮ ‬لإصلاح التعليم وأخيرا مخطط العمل لإصلاح التعليم،‮ ‬وكلها برامج ومبادرات لم تحقق المطلوب منها،‮ وأن التعليم في‮ ‬المغرب‮ ‬يزداد سوء في‮ ‬غياب استراتيجية محكمة للنهوض به‮.‬
ومن معوقات هذا النهوض ‮ ‬ضعف التلقين بالنسبة للتلاميذ الذين‮ ‬يعتبر مستواهم ضعيفا…‬ في هذا السياق نلاحظ أن السياسة التعليمية الحالية صادرت كل التراكمات والخبرات، وأخلت باستمرارية المشاريع، وأسقطت الساحة التعليمية في نوع من القطيعة أوقع فاعليها في ارتجال اتخاذ القرارات، وارتباك وضبابية في تنزيلها. ولقد برز هذا واضحا من خلال مجموعة من الإلغاءات والتشكيك في الإنجازات؛ مما ضرب في العمق مصادقية الإدارة التربوية، ومن ثمة فقد ثقة رواد المدرسة في خدمات مرفق عام له بعده الاستراتيجي في التربية والتكوين.

إلغاء ثانويات التميز ضرب لمبدأ تشجيع التفوق المدرسي ومقدمة لتعويضها بثانويات مفرنسة
من بين الإلغاءات التي ميزت السياسة التعليمية بعد الدستور الجديد 2011 ونسف بعض مشاريع البرنامج الاستعجالي إلغاء ثانويات التميز، بتعليلات وتفسيرات واهية، غيبت كل الأهداف والأسس التي قامت عليها، وأنشئت من أجلها، كدعم التميز وتشجيعه باعتباره دعامة مهمة في تحسين مردودية منظومة التربية والتكوين، سواء أكان على مستوى المدخلات وصيرورة التربية والتكوين، أم على مستوى المخرجات، على اعتبار أن المرحلة التأهيلية حلقة نوعية ضمن مكونات المنظومة ومحورية في المسار الدراسي.
فكان إحداث ثانويات التميز من ضروريات أجرأة بنود الميثاق الوطني للتربية والتكوين الذي ركز على مفهوم التميز ودعا إلى بلورته إجرائيا، بجعل هذه الثانويات فضاء متميزا لممارسة الحقوق والواجبات، وفق ضوابط تلزم الجميع، واعتبارها فضاء تعليميا بمواصفات دقيقة، يتمحور حول التلميذ، ويمكن من إنتاج نخبة من التلاميذ يتم انتقاؤهم على مستوى السلك الإعدادي من بين المتميزين ضمن أقرانهم، لكن كان قرار إلغائها يوم الثلاثاء 21 فبراير 2012 أثناء لقاء صحفي للسيد وزير التربية الوطنية محمد الوفا؛ حيث وصفت بكونها نموذجا مصغرا لمدارس الأعيان التي عرفتها الحقبة الاستعمارية بالمغرب، مما جعل المهتمين يتساءلون: هل قرار إلغاء ثانويات التميز جاء فعلا للقضاء على مجال الميز بين التلاميذ؟ وهل كانت فعلا فضاء خاصا بأبناء الأعيان والشخصيات؟
أم أن الخوف من وصول أبناء الفقراء إلى قمة التحصيل الدراسي هو المحرك الحقيقي للإقدام على هذا الإجراء؟ أم تم بضغوط من لوبيات معينة كمقدمة لبديل يرضي طموحاتها ويريحها من التعليم الخصوصي والساعات الإضافية؟ هذه التساؤلات سوف تحيلنا على تأمل الخطوة الجديدة التي أقدمت عليها وزارة التربية الوطنية أخيرا بإحداث البكالوريا الدولية.

إحداث البكالوريا الدولية ضرب للميثاق الوطني وتكريس للتبعية والتحلل من الهوية الوطنية
منطلق هذه الخطوة كان منذ الموسم الدراسي 2012-2013 حيث توصل مدراء الأكاديميات مع الدخول المدرسي بمراسلة في شأن إحداث أقسام خاصة بالجذوع المشتركة العلمية والأدبية التي ستشكل نواة شهادة البكالوريا المغربية الدولية في أفق المواسم الدراسية 2013-2014/2014-2015/2015-2016.
وقد يتساءل البعض هنا عن مدلول البكالوريا المغربية الدولية؟
فالحصول على شهادة البكالوريا الدولية يعني: تخرج الطالب من مدرسة تطبق برنامجا باعتراف وإشراف مؤسسة البكالوريا الدولية، وتعد شهادة البكالوريا الدولية ذات قيمة عالية في جميع أنحاء العالم، وبها يتمكن الطالب من التسجيل في معظم الجامعات؛ حيث سيعتمد النظام الجديد اللغة الفرنسية في تدريس المواد العلمية للتلاميذ الذين يقع عليهم الاختيار، وأن البرامج الدراسية تطابق نفس برامج الثانويات الفرنسية بالمغرب، وأن مواد الرياضيات والفيزياء والكيمياء وعلوم الحياة والأرض ستدرس باللغة الفرنسية، مع إضافة الأدب الفرنسي في البرامج التربوية لهذه المؤسسة. والأساتذة الذين سيتم انتقاؤهم سيخضعون لتكوين مستمر في فرنسا بالمركز الدولي للتكوينات بباريس.
كان الحدث منطلقا تجريبيا؛ حيث تم البدء بالتجربة في ست نيابات إقليمية، وكان الاعتقاد أن البدء بهذه النيابات الست ربما لاختبار التجربة والنظر في إمكانية تعميمها في ضوء النتائج المحصلة، لكن مع منتصف موسم 2013-2014 يبدو أن الأمر اتجه في منحى آخر، إذ صار الأمر واقعا، من خلال توقيع وزير التربية الوطنية الحالي مع نظيره الفرنسي اتفاقية حول تعميم البكالوريا الدولية الفرنسية في الثانويات التأهيلية بكامل التراب الوطني ابتداء من الموسم الدراسي 2015-2014.
وهي اتفاقية تقتضي تثبيت وترسيم هذا المستجد المستورد في المنظومة التربوية تحت شعار التعاون والتبادل الثقافي والخبراتي بين المغرب وفرنسا؛ إذ سيستفيد المغرب من الدعم التقني الفرنسي والخبرة الفرنسية في مجالات الهندسة البيداغوجية، وتكوين الأساتذة والتقويم والإشهاد، لدعم البكالوريا الدولية؛ حيث أشار السيد الوزير أن الأمر يتعلق أساسا بدعم إطلاق سلك الباكالوريا الدولية، الذي يحظى بمواكبة فرنسا خاصة في تدريس اللغة الفرنسية، والبحث عن السبل والوسائل الكفيلة بدعم التعاون في مجال تكوين الأساتذة المبرزين، وإغناء خبرات الأقسام التحضيرية بالمدارس العليا.
كما أشار الوزير الفرنسي إلى أن “هذا التعاون يتطلب تعزيزه أكثر فأكثر لفتح آفاق مشتركة للأجيال الشابة، سواء في تدريس اللغات، بما فيها الفرنسية، أو في مجال التوجيه المدرسي والتكوين المهني، وفتح فروع دولية للباكالوريا وتقييم النظم التعليمية”.
ولنفترض جدلا أن الاتفاقية تدخل من باب التعاون والتبادل؛ إلا أن ميزان القوى وطبيعة العلاقة التي يمكن أن يتم من خلالها هذا التعاون يوضحه موقف السفير الفرنسي الذي صرح بواشنطن أن المغرب يشبه “العشيقة التي نجامعها كل ليلة، رغم أننا لسنا بالضرورة مغرمين بها، لكننا ملزمون بالدفاع عنها”، وهذا الموقف لا يمكن تفسيره إلا في سياق النظرة الاستعلائية لفرنسا، وتشبثها بمستعمراتها السابقة، ومحاولة إعادة الاعتبار لثقافتها ولغتها من خلال الدول التي تريدها تابعة لها، ومتحكمة في مصيرها التربوي والثقافي والتنموي، معربة عن وعيها بأن تحقيق الاستمرارية في بسط الهيمنة على مستعمراتها لا يمر بالضرورة عبر التواجد العسكري ما دامت اللغة هي المدخل الرئيسي لتلك الاستمرارية، مما يتطلب التفكير في الوسائل اللازمة لفرض اللغة الفرنسية على تابعيها، والسعي الحثيث لتكوين النخبة السياسية والثقافية التي تقود منظومة التعليم تكوينا فرانكفونيا صرفا، والتي ستؤهل لقيادة دواليب الإدارة المغربية، والإسهام في عولمة المجتمع وتدريجه وتغريبه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *