يرى بعض الباحثين أن الشرارة الأولى للغزو بالفكر والقيم اتقدت في ذهن “لويس” التاسع (611هـ – 669هـ / 1214م- 1270م) ملك فرنسا وقائد آخر حملتين صليبيتين كبيرتين على العالم الإسلامي، فحينما هُزم في الحملة الصليبية السابعة، وأُسِر بالمنصورة سنة 648هـ 1250م، أتيحت له فرصة التأمل والتدبر، فوضع مخططاً من أربعة محاور لغزو جديد (سلمي) للعالم الإسلامي. وقد نشط هذا المخطط مجدداً بدءاً من عام (1082هـ = 1671م) على يد الملك “لويس الرابع عشر” بواسطة وزيره الشهير “كليبر” الذي كلف بعض المعتمدين في الشرق بالبحث عن المخطوطات العربية.
يقول الدكتور محمود المقداد: “وقد تلقن الفرنسيون هذا الدرس القاسي باشتراكهم مع الأوروبيين الآخرين في هذه الحروب، وخلاصة هذا الدرس أن الحملات المسيحية الأولى إلى الأرض المقدسة وإلى مصر، جاءت من غير خطة مدروسة جيداً، ومن غير معرفة شيء عن أخلاق الشعوب التي ذهبوا لقتالها أو عن تسليحها”، ثم يقول: “وهكذا حاول الفرنسيون أن يتعرفوا أخلاق العرب والشرقيين وعاداتهم وتقاليدهم وما لهم من معارف وثقافات.. ولهذا اتجه الغربيون عامة والفرنسيون خاصة إلى جمع أعداد من المخطوطات.. وقد جُنِّد لهذا الغرض رهبان ومنصرون وتجار وجواسيس ودبلوماسيون وسفراء في العالم العربي والإسلامي ورحَّالة وسواح ومستعربون، كُلِّفوا خصيصاً بهذا العمل” (تاريخ الدراسات العربية في فرنسا، 56-57).
ففي أرض مصر إذن بدأ المخطط يدور في رأس “لويس التاسع” ملك فرنسا. وبعد أكثر من 500 عام، وعلى ثغر الإسكندرية من أرض مصر أيضاً نزل القائد الفرنسي “نابليون بونابرت” يُنفِّذ الحملة الفرنسية (علمانية العقل والفكر صليبية القلب والجنان) على العالم الإسلامي سنة (1213هـ/1798م). لم تستغرق هذه الحملة عسكرياً أكثر من ثلاث سنوات، ولكنها خلفت وراءها زلزالاً كبيراً كانت قد أعدت له عدته، وكانت أحوال المسلمين مُهيَّأة له، وأهم ملامح هذا الزلزال:
– التوجه إلى تهميش القوى الإسلامية المناهضة للتبعية للغرب وتنحيتها، الذي تطوَّر بعد ذلك إلى محاربة تلك القوى، كما وضح التوجه إلى تدجين بعض المشايخ واستمالة أصحاب النفوذ والتأثير بإيجاد وثاق متين بينهم وبين الغرب وإدخالهم في نطاق التبعية لفرنسا.
– إشاعة الفجور والتحلل الأخلاقي بواسطة نساء الغرب وبغاياهم، كما شجعوا الفسقة وضعاف النفوس من المسلمين على الخوض فيه والتبجح به، وكان واضحاً حرصهم على إفساد المرأة المسلمة بإشغالها عن وظيفتها في بناء الأنفس والعقول.
– إثارة النعرات الوطنية وروح الفخر بهذا الماضي الوثني، مع عد المسلمين ضمن الغزاة لأراضينا، فمن ذلك قولهم في أحد المنشورات الموجهة إلى الشعب المصري: “..وإن العلوم والصنائع والقراءة والكتابة التي يعرفها الناس في الدنيا أُخذت عن أجداد أهل مصر الأُوَل، ولكون قطر مصر بهذه الصفات طمعت الأمم في تملكه، فملكه أهل بابل وملكه اليونانيون والعرب والترك الآن..” (تاريخ الجبرتي أحداث شهر ربيع الثاني، 1213هـ).
وهذا أحد أسباب بذل جهودهم المعروفة في التنقيب عن الآثار الفرعونية وإبرازها والاهتمام بها، ومن ضمن هذه الجهود تأسيس معهد الآثار الفرعونية.
حاول نابليون بكل قوته إيجاد قاعدة دعائية له ولمبادئه العلمانية التغريبية بإرسال بعثات إجبارية لبعض الأشخاص، ليشكلوا بعد عودتهم تياراً يدعو إلى التغريب ويغير من تقاليد البلاد وعاداتها، كما عمل على غزو المسلمين اجتماعياً باستخدام الفن والتمثيل والموسيقى، وقد ذكر ذلك صراحة في رسالة بعث بها بعد رحيله من مصر إلى خليفته “كليبر” يقول في ختامها: “ستظهر السفن الحربية الفرنسية بلا ريب هذا الشتاء أمام الإسكندرية أو البرلُّس أو دمياط، يجب أن تبني برجاً في البرلس، اجتهد في جمع 500 أو 600 شخص من المماليك، حتى متى لاحت السفن الفرنسية تقبض عليهم في القاهرة أو الأرياف وتسفِّرهم إلى فرنسا، وإذا لم تجد عدداً كافياً من المماليك فاستعض عنهم برهائن من العرب أو مشايخ البلدان، فإذا ما وصل هؤلاء إلى فرنسا يُحجزون مدة سنة أو سنتين، يشاهدون في أثنائها عظمة الأمة الفرنسية ويعتادون على تقاليدنا ولغتنا، ولمَّا يعودون إلى مصر يكون لنا منهم حزب يضم إليه غيرهم.
كنتَ قد طلبتَ مراراً جوقة تمثيلية، وسأهتم اهتماماً خاصاً بإرسالها لك، لأنها ضرورية للجيش، وللبدء في تغيير تقاليد البلاد!” (نقل الرسالة الشيخ محمود محمد شاكر، في رسالة في الطريق إلى ثقافتنا ص: 108) ولكن يبدو أن مقتل “كليبر” على يد سليمان الحلبي وما تلاه من أحداث حال دون تنفيذ هذا المسعى. وهذا ما يفسر تركيز العلمانيين معظم جهودهم في نشر الأغاني الماجنة والدفاع عن المغنيات اللبنانيات المتهتكات، والإكثار من المهرجانات الموسيقية والسينمائية من أجل تغيير ما تبقى من التعاليم الإسلامية لدى المسلمين.
تلك هي أهم ملامح الحملة الفرنسية على قلب العالم الإسلامي، وقد ظلت هذه الملامح نفسها هي ملامح الحملات العلمانية (المحلية!) اللاحقة، ونلاحظ في نتائج هذه الملامح أنها ولَّدت الآثار المطلوبة لقيام العوامل المساعدة بدورها التفاعلي، فإذا كان الغزو الفكري المنظم لم يظهر بصورة كاملة، فإن الحملة حققت نجاحاً ملحوظاً في الغزو النفسي والاجتماعي للمسلمين، وهو ما أدى إلى هزيمة نفسية أمام الغرب لدى كثير من المسلمين، ومن ثم استعدادهم للتلقي عن هذا المنتصر حضارياً، فالحملة الفرنسية أطلقت قبل رحيلها رصاصة العلمانية والتغريب التي أصابت عقل الأمة بعد حين من هذا الرحيل، أو بعبارة أخرى: قلَّبت الأرض الهامدة وأثارتها حتى تهيأت لغرس البذور الفكرية الأولى للعلمانية والتغريب، وقد تولى القوميون واليساريون والاشتراكيون والشيوعيون بعد الحملات الاستعمارية على بلاد المسلمين مهمة غرس تلك البذور ورعايتها ثم قطف ثمارها.