فتوى زواج الصغيرة بين التقرير الشرعي وتجاوزات الصحف حماد القباج

الحكم الشرعي:

الذي دل عليه الشرع في مسألة صغر السن هو النظر في تأثيره على أهلية الفتاة للنكاح؛ فإن كان مؤثرا مُنع الزواج، وإلا فلا:
عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: “خطب أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فاطمة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنها صغيرة”، فخطبها علِيّ فزوجها منه” [رواه النسائي بسند جيد].
فدلالة هذا الحديث ظاهرة؛ حيث كان صغر فاطمة رضي الله عنها في الحال الأولى سببا معتبرا لمنع زواجها، ولم يكن كذلك في الحال الثانية.
ونأخذ من هذا حكما عاما، وهو: متى كان الصغر سببا لتضرر الزوجة منع زواجها، وإذا لم يكن في زواجها ضررٌ شُرِع، ويتفاوت هذا باختلاف البيئات والأزمنة، والطبائع والأحوال، ولا تنحصر المشروعية في زمان النبوة كما توهم البعض.
ومن أمثلة الحال الثانية؛ زواج النبي صلى الله عليه وسلم بعائشة رضي الله عنها:
عن عائشة قالت: “تزوجنى النبى -صلى الله عليه وسلم- وأنا بنت ست سنين وبنى بي وأنا بنت تسع سنين”. [متفق عليه].
وقد استدل بهذا الحديث الجمهور، ومنهم الأئمة الأربعة على مشروعية زواج الصغيرة، كما استدلوا بالآية من سورة الطلاق.
دلالة الفعل النبوي:
والنبي صلى الله عليه وسلم بزواجه من عائشة في ذلك السن لم يشرع لنا أن كل فتاة بلغت تسعا جاز نكاحها، ولكن شرع لنا أن بنت التسع إذا استوفت عناصر أهلية الزواج شرع نكاحها:
قال الداودي مبينا أهلية عائشة: “وكانت قد شبت شبابا حسنا رضي الله عنها”.
المدونة:
والتقرير الشرعي المتقدم كان ملاحظا فيما نصت عليه المدونة من أن للقاضي النظر في حال المعروضة للزواج إذا كان سِنها دون الثامنة عشر، وأن له أن يزوجها إذا رأى فيها الأهلية وانتفى الضرر، وبناء عليه؛ فقد زوج القضاة بالمغرب سنة 2007 قرابة 30 ألف فتاة لم تصل إلى الثامنة عشر، حسب إحصاء رسمي لوزارة العدل.
فما ذنب الدكتور المغراوي الذي لم يزد على ما قال به جمهور علماء المسلمين؟!
الدعوى القضائية انتهازية أم مكر؟
وما هو الوجه القانوني لمتابعته بدعوى قضائية كما تطوع بذلك المحامي مراد بكوري؟!
ولقد كانت يومية المساء أشد غلوا وانتهازية ومكرا حين قالت: “أضف إليها دعاوى كل الآباء الذين لديهم فتيات في سن التاسعة، والذين أحسوا بالإهانة وهم يطالعون هذه الفتوى بينما طفلاتهم يلعبن أمامهم بالعرائس”ِ! (العدد 615).
وكأن الشيخ قال: ينبغي لكل أب أن يزوج ابنته ذات التاسعة.
ولعل صحفيي المساء لا يميزون بين هذا المعنى وبين المعنى المضمن في كلام الشيخ الدكتور؛ والذي مفاده أن ذلك الزواج مشروع بشروطه لمن ناسبه، سيما أنه أفتى من هو خارج المغرب، ولم يُلزمه بفتواه ولا أمره بالعمل بها، وإنما بين له حكم الجمهور فيما سأله عنه.
وظاهر أن سبب سوء الفهم؛ انحصار تصورهم في بيئة معينة، والغفلة عن وجود بيئات -داخل المغرب وخارجه- ينتشر فيها زواج الصغيرات، ويعد عرفا يستنكر أهله الخروج عنه.
المس بالجناب النبوي
.. وأفظع من ذلك كله حال من اشترى الكفر بأرخص الأثمان حين تعرض للجناب النبوي المقدس بالطعن؛ كما جاء في بعض تعليقات الزوار على الخبر في موقع هسبريس؛ فقد زعم بعضهم أنه أشفق على عائشة وقد دخل بها رجل عنده 50 سنة!!!
والعجيب أن المدخول بها وأباها وعشيرتها والصحابة والحاضرين ما اشتكوا من الأمر ولا تضرر أحدهم بشيء منه، بل ما كان في هذا الزواج إلا الخيرات والبركات القاصرة والمتعدية إلى يومنا هذا، وما تأذت منه عائشة ماديا ولا معنويا، وقد علم أنها كانت أعلم زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، وأنها كانت متضلعة في علوم الدين واللغة والشعر والطب…إلـخ.
تتمة بيان الحكم الشرعي:
هذا، وقد ذهب بعض أهل العلم -كابن شبرمة- إلى أن ذلك الفعل من خصوصيات رسول الله صلى الله عليه وسلم:
قال الشيخ ابن عثيمين: “ويرشح هذا القول أن الرسول صلى الله عليه وسلم خص بأشياء كثيرة في باب النكاح”. (شرح صحيح البخاري (6/273).
والظاهر عدم الخصوصية، بل هو حكم عام، لكن لا بد من تقييده بانتفاء الضرر الحسي والمعنوي، لما تقدم، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: “لا ضرر ولا ضرار”، وهذا متحقق في زواج النبي صلى الله عليه وسلم بعائشة كما سبق.
أما إن كان في الزواج ضرر على المتزوجة؛ كأن تتأذى بالوطء، أو يستغلها الولي لأطماعه الشخصية ولا يعتبر رضاها ولا مصلحتها فالزواج هنا لا يجوز، ويشرع لولي الأمر منعه سدا للذريعة، وقد تقدم أن الحكم الشرعي في المسألة نسبي وليس مطلقا:
قال الشيخ ابن عثيمين: “أما الاستدلال بحديث عائشة رضي الله عنها، فهذا صحيح أن فيه تزويج الرجل أولاده الصغار، ولكن قد يقال: متى يكون الزوج كالرسول صلى الله عليه وسلم، ومتى تكون البنت كعائشة؟
أما أن يأتي إنسان طماع لا هم له إلا المال، فيأتيه رجل ما فيه خير، ويقول: زوجني بنتك وهي عندها ثلاثة عشر سنة، أو أربعة عشر سنة، ما بلغت بعد ويعطيه مائة ألف، فيزوجه إياها ويقول: الدليل على ذلك أن أبا بكر رضي الله عنه زوج عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم.
نقول: هذا الاستدلال بعيد وضعيف؛ لأنه لو ما أعطاك المائة ألف ما زوجته، ولا استدللت بالحديث.
… فالذي يظهر لي أنه من الناحية الانضباطية في الوقت الحاضر، أن يمنع الأب من تزويج ابنته مطلقا، حتى تبلغ وتُستأذن، وكم من امرأة زوّجها أبوها بغير رضاها، فلما عرفت وأتعبها زوجها قالت لأهلها: إما أن تفكوني من هذا الرجل وإلا أحرقت نفسي، وهذا كثيرا ما يقع؛ لأنهم لا يراعون مصلحة البنت، وإنما يراعون مصلحة أنفسهم فقط، فمنع هذا عندي في الوقت الحاضر متعين، ولكل وقت حكمه.
ولا مانع من أن نمنع الناس من تزويج النساء اللاتي دون البلوغ مطلقا، فها هو عمر رضي الله عنه منع من رجوع الرجل إلى امرأته إذا طلقها ثلاثا في مجلس واحد، مع أن الرجوع لمن طلق ثلاثا في مجلس واحد كان جائزا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وسنتين من خلافته، والراجح أنها واحدة ..” اهـ.
الصحف وغياب أدب الكاتب:
أما بعد؛ لقد كان المفروض في الأقلام الإعلامية التي تناولت هذه (القضية) أن تتحلى بأدب الكاتب وتتخلى عن الكلام السفيه الساقط، سيما ونحن في شهر له حرمته وفضله.
وهو ما لم يكن للأسف الشديد، فقد أغرقوا الدكتور المغراوي بكيل من السباب والشتائم والتحريض لم نسمع منهم مثلها في بوش ولا شارون، وهذا يدل على المستوى الأخلاقي المتدني الذي يعاني منه بعض من أقحم نفسه في العمل الصحافي، وعلى مبلغ الحقد الذي امتلأت به قلوب أشباه المثقفين على علمائهم!
وهاك أيها القارئ نموذجا من ذلك القاموس العفن:
“الفتوى دعوة لاغتصاب الأبرياء”! (الاتحاد الاشتراكي العدد 8965 على لسان المحامي مراد بكوري)
“فتوى فقهاء الغريزة”! (الاتحاد الاشتراكي العدد 8965)
“صاحب الفتوى لن يجد أي حرج في أن يغتصب كل تلميذات القسم الرابع ابتدائي ويغتصب بنات الجيران”!! (الاتحاد الاشتراكي العدد 8965).
أما مجلة (نيشان)، فلها الريادة والسبق الكامل -كما هو معلوم منها- في استعمال ألفاظ هذا القاموس النتن، ولا أريد أن أزكم أنوف القراء بذلك.
فلا أدري على أيتهما نبكي؛ على تدني المستوى الأخلاقي لهذه الأقلام الصحافية الحاقدة، أم على جهلها بعلمائها ومكانتهم عند الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وصالح المؤمنين.
ونقول لأمثال هؤلاء: الأولى لكم أن تشتغلوا بعيوبكم بدل اتهام الناس بالعيب، وأن تهتموا بإصلاح أنفسكم عوض ما تدعونه من السعي لإصلاح الناس.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *