لقد أتى على المجتمع الغربي زمان كانت فيه الكنيسة تحارب كل مظهر من مظاهر التقدم، وتقف حجر عثرة أمام كل مسالك البحث العلمي، مضيقة على الناس ومانعة لهم من الخروج مما كانت تعيشه أوربا من مظاهر التخلف والانحطاط، حيث كان العقل الغربي يعيش أسير الأساطير التاريخية، والخرافات الدينية، بل كانت الكنيسة تقف مع الجهل ضد العلم، ومع الظلم ضد العدل، ومع الإقطاعيين ضد الشعب، ومع الاستعباد ضد الحرية.. مما تسبب في صراع قوي بين رجال الدين الصليبيين وبين دعاة التقدم والتحرر في أوربا، الذين ضاقوا ذرعا بالقيود التي تفرضها عليهم الكنيسة وهذا ما أدى بدعاة التقدم إلى السعي الحثيث من أجل التحرر من رقابة الكنيسة ورجال الدين، حيث اعتبروهما عائقا من عوائق الرقي بالبشرية في مدارج الحضارة العلمية والتقنية، وبناء الثورة الصناعية الحديثة، وعائقا من عوائق تحقيق الحرية والعدل للناس.
وقد نتج عن ذلك تهميش الدين في أوربا وحصره في دائرة الوجدان والعاطفة، والروح والشعائر، دون أحقية تدخله في حياة الناس وعلومهم وتقنياتهم ومعاملاتهم، فضلا عن السياسة والاقتصاد والقضاء، وهذا ما شكل المجتمع العلماني الغربي.
وتعتقد أغلب المكونات الثقافية الأوروبية أنها لم تصل إلى ما وصلت إليه من تطور حضاري إلا بهذا الانقلاب على مبادئ الدين النصراني وتمسكها باللادينية، وأنها متى ما رجعت لسلطة الكنيسة ورجال الدين فإنها ستقبرُ بذلك كل ما حققته من مكتسبات في مجال العلم و”حقوق الإنسان”.
ولقد حاول بعض من لا علم لهم بدين الإسلام ولا بتاريخ المسلمين من أدعياء التجديد قياس واقع المسلمين على الواقع الغربي، متطلعين للوصول إلى ما وصلت إليه أوربا من التقدم والازدهار، ظانين أن ما حل بالمسلمين اليوم من تأخر وتخلف على المستوى العلمي والتقني والحضاري، إنما حصل بسبب تمسك المسلمين بدينهم واحتكامهم لشرع ربهم، وأنه لن يتأتى لهم التقدم إلا بسلوكهم سبيل علمانيي أوروبا والانسلاخ من أحكام الشرع، ولقد صرحوا بذلك في غير ما مناسبة حتى قال أحدهم: “لقد آن أوان المراجعة والانتقال إلى مرحلة التحرر، لا من سلطة النصوص وحدها، بل من كل سلطة تعوق مسيرة الإنسان في عالمنا،علينا أن نقوم بهذا الآن وفورا قبل أن يجرفنا الطوفان”. الإمام الشافعي وتأسيس الإيديولوجية الوسطية، لنصر حامد أبو زيد ص 110.
وهذا الصنيع من أدعياء التجديد يدل على أنهم ليسوا كما هو اسمهم “مجددين” وأنهم لا يعدون كونهم مقلدين، يترسمون خطى الغرب من الخارجين عن سلطة الكنيسة، فتابعوا علمانيي الغرب في السبب الباعث لهم على الخروج عن سلطة الدين.
وإذا كان تقليد آحاد علماء المسلمين مذموم ومستهجن، فكيف بمن يقلد غيرهم ممن ضلوا عن سواء السبيل دون بينة.
ثم إنه لا يمكننا مقارنة العلاقة بين الإسلام والعلم بالعلاقة بين النصرانية والعلم، لأن الإسلام حض على التعلم وشجع عليه، ولا توجد أي حقيقة علمية ثبت صدقها تتعارض مع نصوص القرآن والسنة أو مع قواعد الإسلام.
ولقد حذرنا الله عز وجل من سلوك سبيل غير المسلمين فقال: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ” آل عمران 100 -101.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم”.
قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى؟
قال: فمن؟ ” متفق عليه.
أما في النتيجة والمؤدى وهو رد نصوص الوحي وتفريغها من حقائقها الشرعية وتأويلها لتساير ما هم عليه من الهوى وتحكيم العقول البشرية على النصوص، فقد شابه أدعياء التجديد فرقة المعتزلة الذين فُتنوا بالفلسفة اليونانية، فأولوا القرآن لينسجم مع آرائها الفاسدة، وكذّبوا الأحاديث الصحيحة التي لم تقبلها عقولهم، أو لم توافق ما تلقوه عن اليونان فـ”على المعتزلة الذين حكموا عقلهم في نصوص الوحي، ومن سار على نهجهم، وتتبع خطاهم أن يعلموا أنه لا يوجد حديث واحد على وجه الأرض يخالف العقل، إلا أن يكون ضعيفا أو موضوعا” درء تعارض العقل و النقل 1/150.
فهذا الموقف المنحرف للمعتزلة من النصوص الشرعية هو الذي نال إعجاب المستشرقين، وتلقى عنهم هذا الإعجاب دعاة التجديد العصرانيون، فهم لا يفتؤون يُثنون عليه في كل مناسبة ومعرض، وصدق من قال:
ومن يكن الغراب له دليلا يمر به على جيف الكلاب