حالُ الأمة مع علمائها محمد أبوالفتح

لقد مرت على هذه الأمة أيامُ عِزٍّ كانت الكلمة فيها لعلمائها، فلا يُقطع أمرٌ دونهم، ولا تُحَلُّ عقدةٌ عقدوها، ولا تُعقد عقدةٌ حَلُّوها، كيف لا ؟! وهم حملة الشريعة وحُماتها، وخيارُ الأمة ورُعَاتُها، يختارون لها من المراعي أحسنَها وأجودَها، ويَذُبُّون عنها ذِئابَها ولصوصها، “يَدْعُون من ضلّ إلى الهدى، ويَصْبِرون منهم على الأذى، يُحْيون بكتاب اللّه الموتى، ويُبَصِّرون بنور اللّه تعالى أهلَ العمى، فَكَمْ من قتيلٍ لإبليس قد أحيوه، وكم من ضالٍّ تائِهٍ قد هَدَوْهُ، فما أحسنَ أثرَهم على الناس! وما أقبحَ أثرَ الناس عليهم! ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين “، إليهم يَتَحاكم الناس في النزاعات، وإليهم يفزعون عند حدوث النوازل والمعضلات، فلما أكرمتهم الأمة أكرمها الله وأعزها من بين الأمم، ومكَّن لها دينها الذي ارتضى لها، وبدَّلها من بعد خوفها أمنا.

وقد أضلنا زمانٌ تَنَكَّر أهله للعلماء فأخروهم وقد أمر الله بتقديمهم، وحقروهم وقد وصانا نبينا بإجلالهم، فنطق الجهال قبلهم وأُسكتوا، وتقدم الرَّعاع بين أيديهم وأُخروا؛ لا يُرجع إليهم إلا لماما، ولا يستفتون إلا أحيانا؛ لا تُذكر حسناتهم وما أكثرها، ولا تُقالُ عثراتُهم وما أندرها؛ فلذلك صار أمرُ الأمة إلى ما صار إليه، فجعل الله عزها ذلا، وأبدلها من بعد أمنها خوفا، وكيف تعز أمة أذلت علماءها؟! أم كيف تأمن أمة أخافت دعاتها؟! حتى إنهم إذا نطقوا بالعلم في زمان الجهل صِيحَ بهم، وإذا صدعوا بالحق في زمان المنكر أُخذ على أيديهم، وما يُنقم منهم إلا أنهم تكلموا بما علموا، خشية أن ينالهم قول الله تعالى: ” إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ “البقرة159، وقوله تعالى:”إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَـئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ “البقرة174 وما يُعاب عليهم إلا أنهم أفتوا بما عرفوا مخافة أن يَصْدُق عليهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أَلْجَمَهُ اللَّهُ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ” (صحيح الجامع2714).
ثم هَبْ أنهم اجتهدوا فأخطؤوا، فماذا بعد؟! ألم يجعل الله أمرهم دائرا بين الأجر والأجرين؟! كما قال صلى الله عليه وسلم: ” إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ” (متفق عليه).
ثم ألسنا في زمان الحريات؟! ألسنا في زمان تُضمن فيه حقوق الزناة والشواذ، ويقولون كلمتهم من غير نكير؟! ألسنا في زمان -وبدعوى حرية التعبير- يستهزأ فيه بالله ورسوله، وتنتهك فيه الحرمات والأعراض من غير تفريق بين ملك ولا مملوك، ولا فاضل ولا مفضول؟! فما بال العلماء تُكمم أفواهُهم إذا تكلموا بكلمة، ويُغرى بهم السفهاء إذا نطقوا ببنت شفة؟! وهل ذنبُهم إلا أنهم علموا من دين الله ما جهله الناس؟! وهل جُرْمُهم إلا أنهم أدركهم زمان صار فيه المنكر معروفا، وانقلب فيه المعروف منكرا؟! زمان يصدق عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ” سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتٌ، يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ، قِيلَ: وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟ قَالَ: الرَّجُلُ التَّافِهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ” (صحيح الجامع 3650).

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *