الصراع بين الحق والباطل قديم قدم الدنيا، ورمي الأبرياء بما ليس فيهم سنة ماضية، يتوارثها المبطلون سافلا عن سافل، ولما كان أهل الباطل مفلسين من جهة الحجة والدليل لم يكن لهم من سبيل سوى الاتهام والتضليل، أو التهديد والتقتيل. فهاهم كفار قريش يصفون رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم بما تشهد العقول المستقيمة ببراءته منه وتنزيهه عنه؛ نسب إلى الكهانة والشعر وإلى الكذب والجنون والسحر، وقد وُصف الرسل قبله بمثل ذلك؛ فقد أشبهت قُلُوب مشركي العرب قلوب من تقدمهم في الكفر والعناد والعتو، كما قال تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ}.
ولما كانت الدعوة السلفية امتداداً لدعوة الرسل عليهم السلام لم يكن مستغربا أن ترمى بشتى التهم والافتراءات، لكن الغريب أن ترمى بالنقيصة وبضدها، وتعزى إلى المقالة وما يقابلها، لكن لا يستغرب هذا في السنوات الخداعات التي أخبر الصادق الأمين عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم أنها تأتي على الناس ويصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق ويؤتمن فيها الخائن ويُخَوَّن فيها الأمين وينطق فيها الرويبضة، فنحن نكتوي بلهيبها ونصطلي بنارها. وإني متعرض في مقالتي هذه لتهمتين كبيرتين – مستعينا بالله تعالى – في تجلية أسبابها وتقويض بنيانها.
التهمة الأولى: أن السلفيين يكفرون الناس
وسبب هذه الفرية ومنشؤها أنهم يرون أن السلفيين لا يسكتون عن منكر رأوه أو سمعوا به، فهم ينكرون على السحرة والمشعوذين، وعلى الطائفين حول قبور الصالحين، الذين ينحرون عندهم القرابين، وعلى المستغيثين بالأموات لكشف الضر وتفريج الكربات، وعلى الذين يحلفون بغير رب البريات، فإن هذه الأمور -وإن كان بعضها شركا أكبر مخرجا من الملة- لا يجوز أن يكفر أصحابها بأعيانهم حتى تقام عليهم الحجة وتزال عنهم الشبهة ممن هو أهل لذلك، وقليل ما هم. فما يفعله السلفيون من إنكار ذلك على من يفعله، وبيان حكمه وعاقبته، هو عين ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم. أفيُلامُ المرء على اتباعه واقتدائه؟؟ ولا يلام المخالف على تبديله وتغييره؟؟
ولا شك أن الحق والعدل وسط بين طرفين ذميمين وحسنة بين سيئتين، فكل من لم يلزم الحق والعدل في عقيدته وسلوكه، وحاد عن ذلك غلوا أو جفاءً، رمى من خالفه بكل بلية ونقيصة.
وكل منصف يعلم أن السلفيين أبعد الناس عن تكفير عصاة المسلمين، وذلك مسطَّر في العقائد التي يدرسونها في معاهدهم ومدارسهم؛ ومن ذلك قول الطحاوي رحمه الله في عقيدته: (ولا نُكفِّر أحدا من أهل القبلة بذنب، ما لم يستحلَّه، ولا نقول لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله، ونرجو للمحسنين من المؤمنين أن يعفو عنهم ويدخلهم الجنة برحمته، ولا نأمن عليهم ولا نشهد لهم بالجنة، ونستغفر لِمُسيئهم ونخاف عليهم ولا نقنطهم). اهـ.
وواقع السلفيين يشهد بذلك أيضا؛ فهم يخالطون الناس، ويصلون في مساجدهم، ويحضرون أفراحهم، ويأكلون ذبائحهم، ويعودون مرضاهم، ويشيعون موتاهم، هل ممن يكفرون الناس بالذنوب من يفعل من ذلكم من شيء؟؟ أفلا تبصرون.
فالتكفير لا يُقْدم عليه إلا من قلَّ نصيبه من العلم والورع؛ لأن له شروطا لا يكاد يحسن تنزيلها على الطوائف بله الأعيان إلا أعيان أهل العلم. قال الشوكاني رحمه الله: (اعلم أن الحكم على الرجل المسلم بخروجه من دين الإسلام، ودخوله في الكفر لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقدم عليه إلا ببرهان أوضح من شمس النهار، فإنه قد ثبت في الأحاديث الصحيحة المروية من طريق جماعة من الصحابة -رضي الله عنهم-، أن من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما). اهـ
وقال ابن تيمية رحمه الله: (وليس لأحد أن يكفر أحداً من المسلمين وإن أخطأ وغلط، حتى تقام عليه الحجة، وتبين له المحجة، ومن ثبت إسلامه بيقين، لم يزل ذلك عنه بالشك، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة). اهـ
وليُعلم أن التكفير حكم شرعي يحرم أن يتراشق به الناس، ويعاقب بعضهم به بعضا. يقول ابن تيمية رحمه الله: (فلهذا كان أهل العلم والسنة لا يكفرون من خالفهم، وإن كان ذلك المخالف يكفرهم؛ لأن الكفر حكم شرعي، فليس للإنسان أن يعاقب بمثله، كمن كذب عليك، وزنى بأهلك، ليس لك أن تكذب عليه، ولا تزني بأهله؛ لأن الكذب والزنا حرام لحق الله تعالى، وكذلك التكفير حق الله فلا يكفر إلا من كفره الله ورسوله) اهـ (الرد على البكري ص:257).
أما التهمة الثانية: أنهم عملاء للحكام
فسببها وباعثها أن السلفيين يسمعون ويطيعون لولاة أمورهم، في منشطهم ومكرههم، قال الطحاوي رحمه الله في عقيدته: (ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا، وإن جاروا، ولا ندعو عليهم، ولا ننزع يدا من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة، ما لم يأمروا بمعصية، وندعوا لهم بالصلاح والمعافاة).اهـ.
أما وجوب طاعتهم فدل عليها الكتاب والسنة مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ}، وأما لزوم طاعتهم وإن جاروا، فلأنه يترتب على الخروج من طاعتهم من المفاسد أضعاف ما يحصل من جورهم، بل في الصبر على جورهم تكفير السيئات ومضاعفة الأجور وصلاح الدنيا وأمن البلاد والعباد، إلى غير ذلك من المصالح التي لا يدركها المتحمسون الجاهلون.
وقد أُمِرنا بالنصيحة لأئمة المسلمين؛ بمعاونتهم على الحق وطاعتهم فيه، وترك الخروج عليهم، وتأليف قلوب الناس لطاعتهم، والدعاء لهم بالصلاح، أما الذين يخالفون هذا المنهج القويم والصراط المستقيم، فتراهم يتبعون العثرات، وينشرون الزلات، ويجعلونها مداد المحابر، وطنين المنابر، ويثيرون العامة على ولاتهم، حتى تذهبَ هيبتهم من القلوب، ويقع الـمَخُوف من الخطوب. ولعل هؤلاء -لشدة كذبهم- يظنون أن السلفيين يتظاهرون بطاعتهم لولاة أمرهم ظاهرا، ويتآمرون عليهم باطنا، ألا فليعلم الخلق جميعا أن هذا دين يدينون الله به، ويتقربون إليه به، وهو مسطور في كتبهم، منشور في دروسهم، ظاهر في مواقفهم، لا ينكر ذلك إلا متحمس جاهل، أو معاند متحامل.
فمن الناس من ينكر مذهب الحق سفاهة، ويعيب المقالة جهالة، ولو سئل هؤلاء عن معنى ما أنكروا لخلطوا بين المذاهب والمقالات، ولأتوا بالمضحكات المبكيات، كما جاء في كتاب بهجة المجالس لابن عبد البر رحمه الله: “رفع رجلٌ من العامة ببغداد إلى بعض ولاتها على جار له أنّه يتزندق، فسأله الوالي عن قوله الذي نسبه به إلى الزندقة، فقال: هو مرجئ قدريّ ناصبيّ رافضي، من الخوارج، يبغض معاوية بن الخطاّب الذي قتل عليّ بن العاص. فقال له ذلك الوالي: ما أدري على أي شيء أحسدك؟ أعلى علمك بالمقالات، أم على بَصَرك بالأنساب”.اهـ
والله الموفق للصواب.