كيف تَكَوَّن الفكر الغربي؟

عندما تصاب أمة من الأمم بمرض “فقدان الذات” فإنها تنساق مباشرة وراء تقليد الأمم الأخرى، والاستمداد غير الواعي من مناهجها ونظمها وقيمها، وقد وقع ذلك في حياة الأمة الإسلامية، مصداقا لقول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: “لتركبن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر، وذراعا بذراع، وباعا بباع، حتى لو أن أحدهم دخل جحر ضب دخلتم، وحتى لو أن أحدهم ضاجع أمه بالطريق لفعلتم” أخرجه الحاكم في الإيمان وقال: على شرط مسلم و أقره الذهبي، السلسلة الصحيحة 3/334.
ولم يكن أخطر من هذا المرض العضال إلا الجهل بحقيقته وعدم إدراك أسبابه، وهو ما أوقع طائفة من بني جلدتنا في الانبهار بالعالم الغربي وفكره والاستماتة في الدفاع عنه، ونصب العداء للدين ومحاربة أهله، والدعوة إلى تبني “العَلمانية” وفرضها على العالم الإسلامي بقوة الفكر والسلاح والاقتصاد.
علما أن العلمانية مذهب لا ديني تمخض عن نصرانية محرفة وانتهى بفلسفات تطغى عليها المادية وحب الذات.
وحرصا من أسبوعية السبيل على بيان حقيقة هذا الفكر، تقدم لقرائها الكرام سلسلة بعنوان: “كيف تكون الفكر الغربي؟” لتكشف من خلالها حقيقة هذا الفكر الذي أنتج العلمانية وسوقها في العالم الغربي وصدرها إلى العالم الإسلامي.

في عالم تتزايد فيه حدة الصراع الإسلامي الغربي، وتتنوع صور التصادم والصراع؛ ما بين صراع ثقافي إلى صراع فكري إلى صراع اقتصادي، ومرورًا بالصراع العسكري.

في عالم يسعى فيه القوي اقتصاديًا وعسكريًا -ممثلاً في أمريكا ومن ورائها أوروبا- إلى فرض هيمنته وتوجهاته الفكرية ورؤيته الحضارية على الضعيف، والذي يمثل في الغالب العالم الإسلامي.
في ذلك العالم الذي أخذ الصراع فيه منحنىً فكريًا؛ كان علينا أن نقف لنتأمل في الفكر الغربي ومرتكزاته العقلية والنفسية.
فكما يقال: “الفكر مرآة السلوك”، فإن الممارسات العملية والتركيز الغربي على بعض القضايا المحورية -في نظره- وسعيه إلى فرض “أجندته” على الدول العربية؛ إنما هي بسبب ما يتركز في العقل الغربي من توجهات ونظريات تكونت عبر السنين حتى أبرزت لنا ذلك الفكر.
لذا فإن هذا مما يحدو بنا إلى الاطلاع على مراحل النمو التي مر بها الفكر الغربي، والوقوف على أهم المحطات والإرهاصات التي أخرجته.
أسئلة تنتظر إجابة
هناك الكثير من المتناقضات والأسئلة المحيرة التي نكتشفها عندما نتعمق في مرتكزات الفكر الغربي، وكيفية تشكيله.
فمن تلك الأسئلة التي تنتظر إجابة شافية:
1- لماذا التركيز الغربي على قضية العلمانية؟! وما سبب ذلك؟!
2- هناك بعض الأمور التي يجعلها الغرب مقياسًا للحكم على أية دولة كائنة من ما كانت مثل: الحرية وحقوق الإنسان والمساواة والتعايش، فلماذا تلك المعايير بالذات؟!
3- إذا كانت تلك المعايير هي ميزان الحكم على الدول بالصلاح أو بالفساد؛ فإن الواقع العملي الغربي في التعامل مع المسلمين خاصة بعيد كل البعد عن تلك المرتكزات، فلماذا سياسة الكيل بمكيالين مع المسلمين؟!
4- إن الدين الذي أرسل به عيسى عليه السلام؛ إنما هو دين سلام ورحمة وبُعد عن الترف والمتاع، وواقعيًا فالغرب مغرق في المادية إغراقاً شديداً، فإلى ماذا يرجع ذلك؟
5- دين المسيح عليه الصلاة والسلام هو دين التوحيد؛ مصداقًا لقول الباري: {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} فكيف حدث التحريف حتى أصبح المسيح عليه السلام ابن الله -تعالى الله عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا- أو حتى أصبح دين التوحيد عقيدة تثليثية، أضف إلى ذلك الطابع الوثني الذي غلب عليها؛ مثل تقديس الصور والتماثيل، ومنصب “البابا” الذي له الحق في غفران الذنوب.. إلى غير ذلك.
لا شك أن وراء كل تلك الأسئلة إجابات غائبة في أعماق التاريخ تنتظر من يغوص لينقب عنها فيكتشفها.
قراءة الفكر الغربي.. ضرورة حيوية
وإذا أردنا أن نضع منافع قراءة هذا الفكر والتعمق في فهمه عبر مطالعة تاريخه؛ فيمكننا أن نوجز ذلك في نقاط أساسية:
1- فهم طبيعة الصراع مع الغرب ومرتكزاته؛ ما يساعد على تبني حلول واستراتيجيات صحيحة تجاهه مبنية على رؤية واضحة.
2- ازدياد القدرة على كيفية إدارة حوار ناجح مع الغرب الذي ربما يقيد في التعريف بالإسلام.
من أين نبدأ؟!
وقبل الشروع في هذه الرحلة إلى أعماق التاريخ يجب علينا أن نعلم أن الفكر الغربي إنما هو نتاج تراكمات مئات السنين، ولكن توجد مراحل أساسية وحقب زمنيه رئيسة كانت هي كالحلقات التي تجمعت واحدة تلو الأخرى؛ لتكون طوقاً كاملاً والتي يمكن أن نوجزها فيما يلي:
1- اعتناق أوروبا رسميًا للنصرانية عام 325م.
2- تحريف النصرانية عقيدةً وشريعةً.
3- التسلط والظلم الكنسي وأثره في العقلية والنفسية الغربية.
4- الثورة الفرنسية عام 1798م.
5- النظريات العلمية التي أعقبت الثورات العلمانية بأوروبا.
وسنحاول بإذن الله أن نتكلم على كل عنصر بشرح أسبابه وتداعياته، وكيف أثر على العقلية الغربية، حتى نخرج بعد ذلك بمجموعة من الثوابت الفكرية والنفسية عن العقلية الغربية..
يتبع..