زمن االفتن والتغيرات العظيمة من أشد الأمور وقعا على الناس حتى يحتار الحليم في أمره، ويلتبس على العاقل شأنه، وذلك لعظم شأن النوازل والحوادث، حتى قيل: عند النوازل والمصائب تذهل النفوس عن النصوص.
لما كان الامر كذلك كان تكاتف المجتمع وتوحد كلمته على حبل الله من الأهمية بمكان، ذلك لأن التفرق والتشاحن في أوقات المحن والفتن يزيد في تصدع المجتمع وتناحر أهله.
ومن أعظم ما يحدث ذلك العاطفة المذمومة التي تحمل على الاستعجال وفساد التصور، فتنقلب العواطف عواصف.
فلا شك أن العاطفة الحية مطلوبة من المسلم إلا أنها يجب أن تكون تابعة للعلم والعقل السليم، فلو قدمنا العاطفة عليهما لحصل في طريقنا ومنهجنا الفساد العظيم.
فاقرأ قوله تعالى: “أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ”.
فانظر-أرشدك الله لطاعته- ماذا نتج عن تحكيم عواطفهم!! (تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ) فلم يثبت مع طالوت لما فصل بالجنود إلا فئة قليلة غلبت بإذن الله فئة كثيرة.
والمتأمل في التاريخ الإسلامي يجد أن هناك صفحات منه تعيد نفسها، وتتكرر أحداثها، ولكننا كثيرا ما نجهل التاريخ وأحداثه وإذا قرأناه لا نعي حقيقة دروسه، ومن الأمثلة على ذلك من المواقف السديدة والتصرفات الحكيمة التي ينبغي أن نستوعبها ونتأملها فيما يقع بنا من تغيرات وفتن مضلة، ما حصل من فتنة في زمن الحسن البصري رحمه الله، فنجده واسع الفقه ناظرا لمآلات الأفعال وحقائق الفتن غير محكم لعاطفته، فلم يفت بقتال بين المؤمنين ولم يأمر بنقض البيعة أو القول بالخروج على ولاة أمور المسلمين، وذلك أيام فتنة الحجاج وظلمه للناس، فلما استبطأ الناس والفقهاء الذين مع ابن الأشعث خروج الحسن البصري معه أرادوا اجباره على الخروج وحمله على قتال الحجاج.
قال ابن عون رحمه الله: “فنظرت إليه (أي إلى الحسن) بين الجسرين وعليه عمامة سوداء قال: فغفلوا عنه، فألقى نفسه في بعض تلك الأنهار حتى نجا منهم وكاد يهلك يومئذ”.
ولما ذكر ابن سعد رحمه الله في الطبقات هذه الواقعة قال: “لما كانت الفتنة فتنة ابن الأشعث والحجاج بن يوسف انطلق عقبة بن عبد الغافر وأبو الجوزاء وعبد الهع بن غالب في نفر من نظرائهم فدخلوا على الحسن فقالوا: يا أبا سعيد ما تقول في قتال هذا الطاغية (الحجاج) الذي سفك الدم الحرام وأخذ المال الحرام و…فعل وفعل؟ فقال الحسن: “أرى ألا تقاتلوه فإنها إن تكن عقوبة من الله فما أنتم برادي عقوبة الله بأسيافكم وإن يكن بلاء فاصبروا حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين” قال: فخرجوا من عندي وهم يقولون: نطيع هذا العلج! قال: وهم قوم عرب، قال: وخرجوا مع ابن الاشعث، قال: فقتلوا جميعا.
هكذا حال سلفنا الصالح عند حلول الفتن المضلات، وهكذا فقه الحسن البصري رحمه الله عند ظهور الشبهات فلم يقدم عاطفته على العلم، وصدق رحمه الله حيث قال: “الفتنة إذا أقبلت عرفها كل عالم، وإذا أدبرت عرفها كل جاهل”.
فما أحوجنا إلى التأسي -في مثل ذلك خاصة- والاقتداء بهذا الإمام الذي قال عنه ابن سعد في الطبقات: “كان الحسن والله من رؤوس العلماء في الفتن والدماء”.