استفحل التعلق بأصحاب القباب والأضرحة حتى صار الناس يسألونهم من دون الله في كل أمورهم من الرزق وجلب النفع ودفع الضر. فإذا كانت الفتاة العانس تبحث عن الزوج، فهي تلجأ إلى ضريح “سيدي يحيى بن يونس” الذي يزوج العوانس، أما إذا كانت متزوجة وترغب في الإنجاب، فتذهب إلى ضريح “مولاي إبراهيم” على اعتبار أنه متخصص في إزالة أمراض العقم، أما ضريح “لالة يطو” فهو لجعل الزوج يحب زوجته ويتشوق إليها، بينما ضريح “شمهروش” فقد أنيطت به مهمة الفصل في النزاعات والخلافات التي يكون أحد أطرافها من الجن.
للأسف الشديد هذه حال الكثير من المغاربة المتعلقين بالخرافات والشركيات، فعدد الأضرحة يتجاوز 60 ضريحا لحل كافة المشاكل الاجتماعية والنفسية والجنسية… دون أن نحتسب عدد الأضرحة والقباب غير المشهورة التي توجد في المناطق النائية والقرى الهامشية.
لقد سبق في الحلقات الماضية الحديث عن بعض المظاهر الخرافية الشركية التي يعج بها بلدنا الحبيب المغرب، وتبين لنا أن القائمين على وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ما فتئوا يكرسون المخالفات العقدية والبدع بكل صورها، عبر إنعاش الأضرحة والمواسم الشركية والسهر على إحيائها بعدما كادت تندثر.
الدندنة حول عقيدة التوحيد هم يشغل المشارقة والمغاربة على السواء
المطالع لكتب المغاربة يقف على حقيقة مهمة يحاول البعض إخفاءها؛ وهي أن العلماء المغاربة التزموا التشنيع على المبالغين في تعظيم القبور والأضرحة؛ كما نقلتُ دليل هذا عن العلامة المغربي المكي الناصري والعلامة تقي الدين الهلالي رحمهما الله جميعا، بما يكشف أكذوبة أن الدندنة حول قضية التوحيد خاص بأهل المشرق أو من يصطلح عليهم بالدعوة الوهابية من باب التنفير والتشغيب.
وفي هذه الحلقة نواصل الحديث عن مظهر خرافي آخر، يقع فيه ما يقع في غيره؛ من طوام عقدية تخدش في الصميم صفاء ونقاء التوحيد الذي هو أعظم ما أمر الله به الناس، وأجل ما بعث به أنبياءه سبحانه، ويتعلق الأمر بضريح “شمهروش” الكائن عند قدم جبل توبقال في جبال الأطلس الكبير.
فمن هو “شمهروش”؟
وما السر في هذا التضارب والغموض والقدسية التي تحيط بالمكان؟!!
ولماذا يتجشم الناس عناء وخطورة الصعود إلى مغارته؟
شد الرحال إلى ضريح (شمهروش) رغم وعورة الطريق
أُلفِت انتباه القارئ الكريم أننا لم نجد صعوبة كبيرة في الوصول إلى مكان باقي الأضرحة التي كانت موضوع تحقيقنا في الحلقات السابقة، إذ أننا نستقل السيارة ولا نتوقف إلا أمام عتبات الضريح مباشرة، لكن هذه المرة الأمر يختلف، فلكي تصل إلى ضريح “شمهروش”، يجب عليك أن تعاني معاناة شديدة، وتقطع على الأرجل أو البغال مسافة جبلية طويلة، ناهيك عن وعورة الطريق، وما يتخللها من انعراجات وأحجار تعترض سبيلك، مما يحتم عليك أن تأخذ قسطا من الراحة بين الفينة والأخرى تستعيد فيه أنفاسك حتى تكمل مشوار الرحلة.
لكن الذي أثار عجبي واستغرابي منظر بعض النسوة العجائز ممن احدودبت ظهورهن وبلغن من الكبر عتيا، أََبين هن الأخريات إلا أن يتجشمن عناء هذه الرحلة بكل ما تحمله من متاعب وآلام، ظننتهن في البداية بعض نساء القرى المجاورة لضريح “شمهروش”، لكن تبين لي فيما بعد أن هؤلاء النسوة تحملن كل تلك المشاق والضنك بغية زيارة الضريح لغرض في أنفسهن.
اعتقادات شركية وأساطير خرافية عن ضريح ” شمهروش”
أول ما استلفت انتباهي بساطة هذا الضريح، على غير عادة الأضرحة التي يبالغ سدنتها في تزيينها بشتى الزخارف والنقوش، فهو عبارة عن قبة غير نظامية تقع وسط جبال الأطلس، تحيط بها أسراب من الغربان “المسكونة بالأرواح” بحسب ما يعتقده القائمون على المكان، أما محيط المغارة فمغطى بلوحات دينية تتشكل من أدعية وآيات قرآنية، وعند الباب توجد لوحة مكتوب عليها “للمسلمين فقط” مما يوحي للزائر بقدسية المكان، وبالتالي سرى اعتقاد خاطئ مفاده أنه بمجرد دخول الإنسان لتلك المغارة فهو يصرع تماما بسبب قدسية هذه المغارة.
تجاوزت شهرة أسطورة “شمهروش” ملك الجن في الموروث الشعبي المغربي البلاد، وانتشرت في الشمال الإفريقي، حيث ذاع صيته بأنه “قاضي الجان” ورئيس أعلى هيئة قضائية تفض فيها النزاعات بين الإنس والجن، ويقتص من الظالم والكل يأخذ حقه. فضلا عن قدرته على شفاء الأمراض.
ويعتقد آخرون بأن “شمهروش” هو حاكم الجن الذي يأخذ بأيدي السحرة والمشعوذين ويبارك في تعويذاتهم، وبالتالي يتم اللجوء إلى المغارة وذبح النذور لدفع هذه التعويذة عنهم وإبطال مفعولها.
يقول الحاج عبد القادر أحد المروجين لهذه الأسطورة: “إن شمهروش ليس من الإنس، وإنما هو جني، وقصة هذا المقام أنه كان يتعبد فيه لا أقل ولا أكثر”.
وتقول الأسطورة “إنه عندما لا تفيد الطقوس الاحتفالية ولا القرابين في تهدئة الجان وإخراجه من مساكنه الآدمية فإن الحل الوحيد هو عقد محاكمة للجن”.
ويقول الحاج عربي أحد حراس المقام “إن سيدي شمهروش جني حي ليس ميتا”. وعن محكمته يقول “كما أن هناك محكمة للإنس فهناك أيضا محكمة للجن، والمحكمة تكون ظاهرة حيث يظهر رعد وبرق”.
بعض الناس يفضل الاغتسال والاستحمام بماء النهر الذي يجري قرب الضريح رغم برودته الشديدة، ظنا منهم أنه سيجعل منهم سعداء وأصحاء، سيما عندما يكونوا مرضى، ومن تعذر عليه الاستحمام لعلة أو أخرى يكتفي بالشرب من عين الضريح، أملا في الشفاء والحظوة ببركته.
وبمحاذاة هذه العين توجد أثار دماء أضحية ذبحت للتو، فلما استفسرنا عن ذلك أجابنا أحد الزائرين، أنها قدمت قربة لضريح “شمهروش”.
الصخرة البيضاء الكبيرة من الجهة اليمنى هي ضريح شمهروش والناس يغتسلون من الوادي المجاور أملا في الشفاء.
وقد كان سكان الجبل والهضاب القريبة من ضريح “شمهروش” يجتمعون حول المغارة خلال مواسم القيظ (السمايم) كل عام طول المدة المتراوحة بين أواخر يوليو وأواخر غشت ليقيموا له موسما تذبح خلاله ثيران سوداء اللون (رمز الفحولة والقوة)، وقد جرت العادة أن يغادروا مسرعين مكان اجتماع الموسم كل يوم وقت حلول صلاة العصر إلى مكان بعيد عن المغارة, وكل من بقي هناك سوف ينال من غضب خدام الملك انتقاما شديدا، حيث تتساقط عليه سحب الغبار والحجارة من دون أن يرى مصدرها.
ويعتقد الناس في جنوب المغرب أن “شمهروش” هو الذي يخرج من منابعها كل الأنهار والأودية التي تخترق بلادهم وهو الذي يقود مجاري المياه العذبة في تلك المناطق شبه القاحلة، لتروي الأرض والبشر والدواب.
جميع الذين يحضرون هذا المكان سواء لطلب الشفاء أو لمحاكمة الجان يؤكدون أن هذا الضريح هو لملك الجان، ويزعم الناس أن هناك المزيد من المقامات لملوك آخرين من الجن، فبجوار هذا الضريح يوجد عدد من المقامات لأسماء جن آخرين مثل “ميمون” و”باشا حمو” و”لالة عيشة”، وتشتهر الأخيرة بأنها ابنة ملك الجان.
المحدث المغربي أبو شعيب الدكالي وموقفه من قضية صخرة (للاة خضراء).
والسؤال الذي نود طرحه في هذه اللحظة وهو سؤال وجيه يدور بخلد كل مغربي يبحث عن الحقيقة، ولا تنطلي عليه بسهولة مثل تلك الخرافات والأساطير التي نسجت حول ضريح “شمهروش”.
ما موقف العلماء المغاربة مما يمارس في هذا الضريح وغيره من الأضرحة من أعمال الشرك والشعوذة؟!
قد يتبادر للذهن لأول وهلة أن جل العلماء المغاربة القدماء والمعاصرين تواطأت مواقفهم على الصمت والتطبيع مع تلك المخالفات العقدية، والحق يقال أن الأمر ليس كذلك، بل كانت -وما تزال- دروسهم وأقوالهم وسلوكاتهم تفضح تلك الممارسات الخرافية الشركية وتسفه أهلها وسدنتها.
ونأخذ كمثال على ذلك الشيخ أبو شعيب الدكالي (1356ﻫ) الذي أحرز الرئاسة العلمية في الدروس السلطانية بالقصر العامر أيام المولى عبد الحفيظ، وصنوه المولى يوسف، والعاهل محمد الخامس رحمه الله، والذي كان يجله ويحترمه.
قال عبد الكبير الزمراني واصفا الشيخ أبا شعيب الدكالي وما امتاز به من النكير على أهل القبورية: “..وقد وقف مواقف كثيرة دلت على ما له من صرامة وإقدام، ولن ننسى قضية (للاة خضراء) وهي صخرة ذات شكل هندسي افتتن بها النساء بمراكش، وكن يقربن لها القرابين، ويقدمن لها النذور، ويقمن لها موسما سنويا إلى أن سمع بخبرها الشيخ رحمه الله فلم يتردد في تغيير هذه البدعة والقيام بنفسه على إزالتها، ومن الغريب أنه كلما دعا عاملا لكسرها امتنع من ذلك لما علق بذهنه من الأوهام حولها، إذ ذاك رأى نفسه مضطرا لكسرها بيده، وفعلا أخد الفأس وكسرها ثم وزع أشلاءها خارج البلد” نقلا عن كتاب السلفية في المغرب ودورها في محاربة الإرهاب للأستاذ حماد القباج ص: 178.
فما عسى يكون موقف القبوريين والخرافيين من صنيع هذا العالم الجليل؟
أتراه كان عميلا لجهات خارجية؟ أم أن له ارتباطا ماديا بدول “البترودولار” الوهابية تملي عليه أفكارها المتشددة الغريبة عن وسطية المذهب المالكي.
وفي انتظار اللقاء بكم في حلقة قادمة -إن شاء الله- سيكون موضوعها حول ضريح (مولاي إبراهيم)، نسأل الله أن يلهم الأمة رشدها ويبصرها بالمخالفات العقدية، وأن يجعلها تعيش على التوحيد، وتحيا على الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة.
وصل اللهم على محمد وآله وصحبه وسلم.