تاريخ فكرة القومية الوحدة والتكتل الغربي مقابل التشتت والتمزق العربي

القومية أو الوطنية أو القبلية أو الحزبية أو النعرات العرقية أو الطائفية أو ما أشبه ذلك كلها يجمعها أنها تنافي وتخالف هذا الأصل العظيم -التفاضل بين الناس بالتقوى-، وإذا أردنا أن نرجع إلى تاريخ القومية القديم فإننا نجد أكثر الناس غلواً في القومية وفي العنصرية -ولا يزالون إلى اليوم- هم اليهود. ربما يكون لليهود السبق وتعليم غيرهم من الأمم التعصب العرقي الذميم المغالى فيه جداً، فإن الأمم الأخرى وإن كانت كل أمة تتعصب لقوميتها إلا أنها لم تبلغ حداً يفوق اليهود، وإنما أكثر الأمم قوميةً ظهرت تبعاً لليهود كما حدث للقومية النازية في ألمانيا أو الفاشية في إيطاليا، فهي ظهرت متأثرة بالفكر اليهودي.
واليهود هم أكثر الناس عنصرية وقومية وذكر الله تبارك وتعالى عنهم ما يدل على ذلك في القرآن في مواضع كما قال الله عز وجل: “وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ” يدعون أنهم أبناء الله وأحباؤه ويدعي اليهود أنهم شعب الله المختار، وأيضاً كما ذكر الله عز وجل: “..قََالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ”، “وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ” فيرون استحلال أموال غير اليهود وأن أموال الأميين هي حلال لليهود!
وفي العصر الحديث برزت فكرة القومية بشكل وطني عندما ظهرت الثورة الفرنسية إذ لم يكن لهذه الأخيرة أي طابع ديني وإنما كانت وطنية تعتبر الناس جميعاً متساوين في الوطنية، فلا ينظر إلى أديانهم ولا إلى عقائدهم ومللهم، هذه فكرة كانت جديدة على الناس سواء في بلاد الغرب أو الشرق لأن الناس إنما يتفاضلون بحسب الدين، وكل إنسان يرى أنه أفضل من غيره ديناً، ومهما كان المخالف له في الدين فإنه يحتقره. لكن الذين وضعوا أفكار الثورة الفرنسية كانوا معادين للدين لأسباب ولظروف خاصة، فكانوا يأخذون من الفكر اليوناني القديم ومن الأفكار التي ظهرت في أوروبا ونمت وترعرعت شيئاً فشيئاً بعد ظهور حركة الإصلاح الديني، فعندما كان هذا الفكر بعيدا عن الدين جمعوا الأمة كما يزعمون على أساس وطني.
في ذلك الوقت، لم يكن المسلمون يعرفون أي شيء عن الفكرة القومية ولا الوطنية إلى أن ظهرت في مصر فأصبح الافتخار بمصر وبأمجاد مصر وبالفراعنة وما قبل الفراعنة تأثراً بالذين ابْتعِثوا لفرنسا وتأثروا بفكرة الوطنية الفرنسية، ونشأت دعوة قوية جداً إلى الوطنية حتى كانت كل الأحزاب على اختلافها تدعو وتفخر بالوطنية.
حزب الوفد – وسعد زغلول – كان وطنياً، وكذلك مصطفى كامل كان وطنياً جداً رغم عداوته لسعد زغلول ورغم ما عنده من مسحة إسلامية لكن كان هو الذي يقول (لو لم أكن مصرياً لتمنيت أن أكون مصرياً). أحمد شوقي، حافظ ابراهيم، وغيرهم من الشعراء كانوا شعراء وطنيون قلّ أن تجد لهم شيئا من الشعر الذي يفتخر بالعرب أو بالعالم الاسلامي إلا أحياناً، إنما الأصل عندهم في الفخر هو بالوطنية ونوع من الامتزاج بالقومية لكن لم تظهر ملامحه ولم تتضح في تلك المرحلة.
ثم ظهرت فكرة القومية العربية والقومية التركية، القومية العربية أول من دعى إليها وأظهرها كقومية عربية هم النصارى العرب، وهؤلاء النصارى أكثرهم في بلاد الشام، أما الأقباط الذين كانوا في مصر فلم يكونوا يفكرون في قومية عربية بل ولا حتى في وطنية مصرية إنما كان همهم هو التبعية للغرب وللمستعمر.
الذي حدث أن الدولة العثمانية ضغطت على نصارى الشام فهاجرت طوائف كبيرة منهم إلى مصر، وهناك أسسوا جريدة الأهرام ومجلة المقتطف وغيرها، وبدأوا يَبُثون الفكر القومي في مصر فأصبح منتشراً في مصر إلى حد ما، وكذلك في بلاد الشام وهي مقره ولا سيما في لبنان لأن النصارى كانوا في منطقة جبل لبنان، وهناك تركزت الفكرة أو الدعوة النصرانية القومية وأيَّدها الغرب كما قال “برنارد لويس” في كتابه “الغرب والشرق الأوسط”: (تبنى الغرب القومية العربية لماذا؟ لتكون معولاً لهدم الإسلام)! ليضرب بها الإسلام فتختلف آصرة التجمع عند العرب والترك على الإسلام فينفصلون عن الترك وعن الهنود وغيرهم وتصبح القومية العربية فقط هي التي تجمعهم فيسهل تفتيتهم.
كانوا يريدون تفتيت الدولة العثمانية بأي شكل من الأشكال، ففي الدول العربية أظهروا فكرة القومية العربية ونشأت منها جمعيات: “جمعية العربية الفتاة” وما تفرع عنها، “الجمعية القحطانية”، “جمعية العهد”، “الجمعية العربية”،.. إلخ، فأصبح النصارى العرب يتغنون بأمجاد الأمة العربية بأشعار ومنشورات وكتب ألفوها، وكذلك أصبحت الدعوة في تركيا إلى القومية الطورانية التركية، والذين دعوا إلى القومية الطورانية التركية كانوا من اليهود وهذا شيء ثابت حتى أن أحد المؤرخين الأمريكان اسمه “واطسن” يقول: أنه لا يوجد أحد في حركة الاتحاد والترقي – الحركة القومية التركية – من أصل تركي حقيقي، وإنما هم من اليهود وغيرهم! والذين يدعون إلى القومية العربية ليس فيهم في الأصل ولا واحد مسلم وأكثرهم أيضاً أصولهم أعجمية ونصارى! هنا يجد الإنسان المفارقة ويعلم أنها كانت كلها تهدف لتحقيق التمزق والفرقة بين المسلمين لمعرفتهم بأخطار الحركة القومية في أوروبا التي قد عانت وذاقت الأمرين من الفكر القومي والتمزق القومي، فجاءت وصدَّرت هذا الفكر إلى العالم الإسلامي، فظهرت الدعوة الطورانية أو التركية وأرادت أن تفرض اللغة التركية على جميع العرب، وفي المقابل يظهر الدعاة القوميون العرب – وأكثرهم من النصارى ثم تبعهم الشيعة والدروز وأمثالهم – ويقولون العروبة واللغة العربية والأمة العربية.
وبعد الحرب العالمية الثانية وقع ميثاق جامعة الدول العربية، ثم ظهرت هذه الأحزاب وأسس حزب البعث، فلما ظهر المعسكر الشرقي الاشتراكي اندمجت الفكرة الاشتراكية في الحركات القومية والوطنية -لأنها كلها مستوردة من الغرب- فقامت الثورة المصرية وحَوَّلَها جمال عبد الناصر من فكرة وطنية إلى فكرة قومية، وقبل جمال عبد الناصر لا تجد في مصر إلا إشارات إلى العرب أو العروبة ككل، وإنما كانت الفكرة الراسخة في مناهج التعليم وفي الصحافة والإعلام والشعر هي الشعارات الوطنية الفرعونية…إلخ، وبعد أن جاء جمال عبد الناصر أنشأ إذاعة صوت العرب، والصحافة العربية، والفكر العربي، والأمة العربية من المحيط إلى الخليج ، فأجج الفكر العربي القومي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *