من المعلوم بدهيا لدى كل مسلم أن انتشار الإسلام في بقاع الأرض ضمّ في إطاره الكثير من الأعراق والشعوب والبلاد، وكتب لهم تاريخاً جديدا وقطع الصلة بما كان قبله، ورتَّب حياتهم على أساس الولاء للإسلام وحده، وكوَّن من كل هذه الأعراق أمة واحدة تَتَّفق في الاعتقاد وفي التشريع المنظم للحياة الروحية والمادية.
وقد كان الإسلام هو السِّمة الأساسية لهذه الشعوب والأعراق التي تكونت في رحابه، وتحت حكمه وفي ظله، وعلى ضوئه قام المجتمع الإسلامي والحضارة الإسلامية، وأصبحت اللغة العربية وعلومها وأدابها تاجاً يتزين به كل عالِم في هذه الأمة من العرب أو من غيرهم؟
بل لقد برز غير العرب كعلماء ترجع إليهم الأمة في مختلف المعارف، وكانت الأعراق تكّون أمه واحدة إذا اشتكى منها عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى.
هذا كله طبعا كان في زمن الخلافة، ذاك الزمن الذي كان يحسب فيه الغرب للشرق -المسلمون- ألف حساب قبل أن يقدم على أي عمل من شأنه أن يثير غضب المسلمين، واليوم وبعد أن انفرط عقد الخلافة وتخلى المسلمون عن دينهم الذي هو مصدر تشريعهم وسر عزتهم ووحدتهم، واستعاضوا عنه بالمناهج الباطلة من قومية واشتراكية وعلمانية وليبرالية، أصبحوا من الهوان على أعدائهم بحيث تغتصب نساء المسلمين في أبي غريب، وتقتل أطفالهم في فلسطين ولبنان، وتستباح أراضيهم في العراق الجريح، فيبقى الوضع على ما هو عليه دون أي عمل يربو عن التنديد والاستنكار.
إن الذل والهوان الذي أصيبت به الأمة إنما طرأ بعد ما وقع التنازع والاختلاف، فصدق عليها قول ربها سبحانه: {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}الأنفال. فلما اعتصمت بغير حبل ربها وخالفت هدي نبيها وتمسكت بالقوميات بدل عقيدة الولاء والبراء دب إليها داء التنازع والاختلاف فهانت على أضعف أعدائها.
ولعل أبرز وأخطر ما ابتلي به المسلمون تلك النزعة الشعوبية القومية، التي كانت معول الهدم الذي أعمله يهود الدُونمة في جسم الخلافة الإسلامية، فتنادى الأتراك إلى تتريك الدولة وروجوا للقومية الطورانية، ودعا العرب إلى القومية العربية وتعصبوا لها حتى قاتلوا إلى جانب الإنجليز النصارى ضد إخوانهم المسلمين العثمانيين، فتتالت الأحداث وتعاقبت الوقائع فأصبحت القومية العربية دينا يوحد بين المسلم واليهودي والنصراني، وأنشئت لها الجامعة العربية التي كرست التنازع والتدابر بدل أن تقضي عليه، وتكفلت بمهمة قطع الطريق على أي حل إسلامي يوحد بين المسلمين تحت راية الإسلام.
ومعلوم أن رابطة الإسلام أكبر وأجل من رابطة العروبة، فكيف نستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير.
أبي الإسلام لا أبا لي سواه *** إذا افتخروا بقيس أو تميم
فنظرا لما جنته القومية العربية على الأمة من شتات وضعف ما زلنا نعيشه إلى يومنا هذا، ارتأينا أن نعد هذا الملف.