“الفصل المريب” الذي نراه هذه الأيام بين الإسلام والسياسة أو بين الإسلام والدولة إنما هو ثمرة مِن الثمار المرة للاحتلال الغربي لبلاد الإسلام؛ فلما يئس الكفار من المسلمين أن يتركوا دينهم؛ أخذوا يزرعون بينهم هذا المذهب الخبيث، وهو: “فصل الدين عن الدولة”، وأن يصبح الدين علاقة خاصة بين الإنسان ومعبوده.. أيًّا كان ذلك المعبود، وألا يتبنى المجتمع نشر دين معين، فتكون بذلك الدولة المدنية -ليست المقابلة للعسكرية- تأخذ تصوراتها مما تراه الأغلبية، وإن كان ذلك مخالفًا للإسلام! ومعلوم كيف توجد هذه الأغلبية وتقاد إلى ما يشاءون!
هذا الفصل هو “سمة الحياة الغربية” المبنية على الإلحاد، وإنكار وجود الله، وأقصى ما يمكن أن يقروا به إثبات الوجود المجرد بغير أمر ولا نهي، ولا دخل له بالحياة مطلقًا، والإنسان عندهم حر يقرر ما يريد، ويضع ما يشاء من نظم الحياة، وقد تسرب ذلك بالفعل إلى بلاد المسلمين خاصة على أيدي “أبناء أعدائنا منا” -كما يصفهم الشيخ “أحمد شاكر” رحمه الله-، فهم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، لكن القلوب قلوب شياطين، تشربت بما يقوله أعداء الإسلام، أما في التصور الإسلامي فيستحيل الفصل بين الدين والحياة على مستوى الفرد والجماعة، بل هو مناقض لعقيدة المسلمين في الربوبية والألوهية، فالرب هو الآمر الناهي السيد المطاع، هو المشرع للعباد -كما هو من معاني الربوبية-، ويجب أن يعتقدوا ذلك فيه كما يجب أن يتحاكموا إليه في سائر شئونهم ونظمهم، كما أن من أسماء الله: “الحكم”.
هذا وإن الخلل الحادث في الأمة، والفساد العريض ما هو إلا ثمرة لذلك الفصل المريب؛ إذ أصبحت نظم الدولة في وادٍ والإسلام في آخر في كثير من الأحيان، فأثر ذلك في الشعوب على مدار السنين والأعوام.. حتى ظهرت أجيال منبتة الصلة بدينها، لا تراه إلا علاقة بين العبد وربه؛ وفي المسجد فقط! ولا دخل له بالحياة مِن: اقتصاد، واجتماع، وتعليم، وسياسة، وغير ذلك..!
بل صار البعض يناقش ويجادل في هذه القضية وغيرها من المُسَلَّمات التي لم يكن يُتصور أن تطرح للمناقشة، مثل ما يثيرونه هذه الأيام: “هل الإسلام هو الحق، ومَن لم يكن مسلمًا يكون كافرًا؟!”.
هل النصارى واليهود يدخلون الجنة أم النار؟!
هل مَن كذب الرسول -صلى الله عليه وسلم- يكون كافرًا؟!
وأنه لا فرق بين الملل، ولكل إنسان الحرية في الاعتقاد! إلى غير ذلك من القضايا البديهية التي لم يكن يُتصور أن تُجهل!
كيف وقد عدَّ زيد بن صوحان الجهل بأي اليدين تقطع في حد السرقة علامة على نفاق صاحبه، والأثر كما أورده ابن كثير -رحمه الله- أن أعرابيًّا جلس إلى زيد بن صوحان وهو يحدث أصحابه، وكانت يده قد أصيبت يوم نهاوند، فقال الأعرابي: “والله إن حديثك ليعجبني وإن يدك لتريبني”. فقال زيد: ما يريبك من يدي؟ إنها الشمال! فقال الأعرابي: والله ما أدري اليمين تقطعون أو الشمال؟ فقال زيد بن صوحان: صدق الله: (الأعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ) (التوبة:97).
فماذا يُقال عمن يقول: “ليس للدين صلة بالسياسة”؟!
أو أن “الحكم ليس من الشرع”؟!
أو “ليس للشرع أن يحكم حياة الناس”؟! إلى غير ذلك.. مما يقال ويثار هذه الأيام.
لئن كان الجهل بفرض الكفاية جعل زيدًا يقول ويقرأ: (الأعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ.. )؛ فكيف بفروض الأعيان، بل والمعلوم من الدين بالضرورة؟!
إذن فديننا -دين الإسلام- الارتباط فيه وثيق بين عبودية الفرد في اعتقاده وتصوره، في عبادته ومعاملته، في أخلاقه وسلوكه، وكذا أحواله الباطنة، وبين أنظمة الحياة التي يعيشها، بل لا يمكن أن يحصل فصل -في الحقيقة-، وما هذه النماذج المشوهة إلا نتاج الفصل الذي يُراد للدول الإسلامية أن تتبناه وتستمر عليه. (انظر:الإسلام والدولة؛ إيهاب الشريف).