كتب حكيم إلى آخر: اعلم حَفِظك اللّه، أنّ النفوس جُبِلت على أخذ ما أُعْطِيتْ وَمَنْع ما سُئِلتْ، فاحْمِلها على مَطيّة لا تُبطىءُ إذا رُكبت، ولا تُسْبَق إذا قُدِّمَتْ، فإنما تحفظا لنفوسُ على قدْر الخوف، وتَطْلُب على قَدْرِ الطمع، وتطْمَع على قدر السبب، فإذا استطعت أن يكون معك خَوْف المُشْفِق وقناعة الرّاضي فافعل.
كتب عمر بن عبد العزيز إلى رجاء بن حَيْوة: أما بعد، فإنه مَن أكثر من ذِكْر الموت اكتفى باليَسِير: ومن عَلِمَ أن الكلامَ عملٌ قلَّ كلامهُ إلا فيما يَنْفَعه.
وكتب عمرُ بن عبد العزيز إلى الحسن: اجمع لي أَمْر الدنيا وصِفْ لي أَمرَ الآخرة. فكتب إليه: إنما الدُّنيا حُلْم والآخرة يَقَظَة والموت متوسِّط، ونحن في أضغاث أحْلام، من حاسَبَ نَفْسَه ربح، ومن غَفلَ عنها خَسِر، ومن نَظر في العواقِب نَجَا، ومن أطاعَ هواه ضَلَّ، ومن حَلُم غَنِم، ومن خافَ سَلِمَ، ومن اعتبر أَبْصَرَ، ومن أبصرَ فَهِمَ، ومن فَهِمَ عَلِمَ، ومن عَلِم عَمِلَ، فإذا زَلَلْتَ فارْجعِ، وإذا نَدِمْتَ فأَقْلِع، وإذا جَهِلْت فاسأل، وإذا غَضِبْتَ فأمْسِك، واْعلم أن أفضل الأعمال ما أُكْرِهَت النفوس عليه.
قال حكيم لابنه: يا بني، إني مُوصيك بوصيّة، فإن لم تحفظ وصيتي عنّي لم تَحْفَظها عنِ غيري: اتّق الله ما استطعتَ، وإن قَدَرْت أن تكون اليومَ خيراً منك أمس وغداً خيراً منك اليومَ فافعل، وإياك والطمعَ فإنه فَقْرٌ حاضِر، وعليك باليأسِ فإنك لن تيأسِ من شيء قطُّ إلا أغناك اللهّ عنه، وإياك وما يُعْتَذر منه فإنك لن تَعْتذر من خير أبداً، وإذا عَثر عاثر فاحمد اللهّ أن لا تكون هو. يا بني، خذِ الخيرَ من أهله، ودع الشرً لأهله، وإذا قُمتَ إلى صَلاتك فَصلِّ صلاة مُوَدع، وأنت ترَى أن لا تُصَلِّي بعدها أبداً.
قال عَمْرو بن عُتْبَة: لما بلغتُ خمسَ عشرةَ سنة قال لي أبي: يا بني، قد تَقَطعَتْ عنك شرائع الصِّبَا فالزَم الحياء تكن منِ أهله، ولا تُزَايِلْه فَتَبِين منه، ولا يَغُرَّنك من اغترَّ بالله فيك فمَدحك بما تعلم خلافه من نفسك، فإنه من قال فيك من الخير ما لم يعْلَم إذا رَضي، قال فيك من الشرّ مثلَه إذا سَخِط. فاستأنس بالوحْدَة من جُلساء السَّوء ِتَسْلَم من غِبّ عواقبهم.
تسلية وترويح
أحزم الملوك
خرج بعض ملوك الفرس متنزها، فلقيه بعض الحكماء فسأله عن أحزم الملوك؟ فقال: من ملك جده وهزله، وقهر لبُّه هواه، وأعرب لسانه عن ضميره، ولم يختدعه رضاه عن سخطه، ولا غضبه عن صدقه. فقال الملك: لا، بل أحزم الملوك من إذا جاع أكل، وإذا عطش شرب، وإذا تعب استراح. فقال له: أيها الملك؛ قد أجدت الفطنة، أهذا لك علم مستفاد أم غريزي؟ قال: كان لي معلم من حكماء الهند، وكان هذا نقش خاتمه. قال: فهل علمك غير هذا؟ قال: ومن أين يوجد هذا عند رجل واحد. ثم قال الملك: علمني من حكمتك أيها الحكيم. قال: نعم! احفظ عني ثلاث كلمات؛ قال: صدقت، فهات، قال: صقلك لسيف ليس له جوهر من طبعه خطأ، وبذرك الحب في الأرض السبخة ترجو نباته جهل، وحملك الصعب السير على الرياضة عناء.
قيل لمغفل: قد غلا الدقيق. فقال: وما أبالي؛ إني أشتري الخبز من السوق.
الأخفش وتلميذه
قال رجل اسمه عمر لعلي بن سليمان الأخفش: علمني مسألةً من النحو؟ قال: تعلم أن اسمك لا ينصرف، فأتاه يوماً وهو على شغل. فقال: من بالباب، قال: عمر. قال: عمر اليوم ينصرف. قال: أوليس قد زعمت أنه لا ينصرف؟ قال: ذاك إذا كان معرفة وهو الآن نكرة.
جحظة يصف ضيق العيش
ألم جحظة البرمكي بهذا المعنى فقال:
إنّي رضيـت مـن الرحيـــق *** بشراب تـــمرٍ كالـــعقيق
ورضيت مـن أكـل الســميـ *** ذ بأكل مســــودّ الدقيــــق
ورضيت من سعة الصــحو *** ن بمنزلٍ ضـــنكٍ وضيق
وجعـلت تغريـــــد الحــمــا *** مة منزلي عنــد الشروق
فغدوت كسرى صاحب الـ *** إيوان والعيـــش الأنيـــق
وحجــبت نفسـي عن حـجا *** ب الباخلين ذوي الطريق
القاطـــعين مــخــافـــة الـ *** إنفـاق أسبــاب الصّـــديق
جيران يتشممون الأماني
قال ابن أبي عتيق لامرأته: تمنيت أن يهدى إلينا مسلوخ، فنتخذ من الطعام لون كذا ولون كذا، فسمعته جارة له، فظنت أنه أمر بعمل ما سمعته، فانتظرت إلى وقت الطعام، ثم جاءت فقرعت الباب، وقالت: شممت رائحة قدوركم فجئت لتطعموني منها. فقال ابن أبي عتيق لامرأته: أنت طالق إن أقمنا في هذه الدار التي جيرانها يتشممون الأماني.
الرجل الأكول
ودخل رجل أكول على قوم، فأكل أكلاً ذريعاً. فقال أحدهم: عجبت من أكله وسرطه. وقال الآخر: وشقه دجاجة ببطة، وقال آخر: وأكله دجاجة وبطة، وقال آخر: كأن جالينوس تحت إبطه.
فقالوا له: أما الذي قلناه فمفهوم، فما معنى قولك: كأن جالينوس تحت إبطه؟ قال: لكي يناوله الجوارشن1 لئلا يتخم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1: الجَوَارِشْن: في الفارِسِيّة: گـوارش وگـوارشت: كلّ مادّة هاضِمَة: نوعٌ من الأَدْوِيَة المُرَكَّبَة، يُقَوِّى المَعِدَة، ويَهْضِمُ الطّعامَ.