دَور الإفتاء في التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية

الفتوى ومنذ أن عرفها المسلمون لم تقف عند حد الإفتاء في القضايا الفردية كقضايا الصلاة والطهارة والبيوع إلى غير ذلك مما تعلق بالفرد المسلم؛ بل تجاوزت الفتوى مساحة القضايا الفردية إلى مساحة القضايا الجماعية؛ فتشابكت الفتوى وتفاعلت مع التحديات والإشكالات الحضارية والإستراتيجية التي تواجه المجتمعات المسلمة؛ كل ذلك من منطلق مفاده: مسؤولية المفتي في تصويب الواقع؛ والاتقاء به نحو سعادة وصالح البشرية، ذلك أن الأصل في الشريعة الإسلامية أنها تحمل في أصولها ما يرسي قواعد العدل والمصلحة للإنسانية جمعاء.

انطلاقا من ذلك كله كان لا بد للإفتاء المعاصر من ربط الفتوى بتنمية قدرات الأمة وطاقاتها في شتى المجالات؛ وفيما يلي بيان لطرق والأساليب التي يمكن من خلالها للإفتاء المعاصر الاضطلاع بمسؤولياته في القيام بدور مهم في تحقيق ودفع عجلة التنمية؛ بكل ما لهذا المصطلح من مدلولات للرقي بالمجتمع المسلم إلى أعلى المستويات الحضارية وفي شتى المناحي.
أولا: دور الإفتاء في التنمية السياسية
للإفتاء المعاصر دور في تنمية السياسة وللمجتمعات المسلمة من حيث دعوته إلى تحريم الاقتتال الداخلي سياسيا كان ذلك أو طائفيا , كذلك دعوته إلى زيادة اللحمة بين أفراد المجتمع، وتحريم يفك الدماء المسلمين والاعتداء عليهم بغير وجه حق، بل وصل الأمر بالإفتاء في بعض الأحيان لاتخاذ مواقف التصويب والرقابة للواقع السياسي بما يحفظ مصلحة المجتمع سواء كان هذا التصويب للحاكم او المحكومين.
ولذلك وجنا فتاوى كثيرة تدعو إلى الوحدة الوطنية، والتسامح بين طوائف المسلمين، وتحريم ضرب السفارات ، وقتل المعاهدين، واحترام المعاهدات، إلى جانب الفتاوى الصادرة بضرورة مقاومة المحتل؛ وحرمة خيانة الأوطان؛ كذلك الفتوى التي تدعو إلى مبدأ المساواة أمام القضاء؛ ومحاربة الفساد؛ والاستبداد السياسي.
وإذا كان ما سبق ذكره هو ما يضيفه الإفتاء من تنمية وإصلاح المجتمع فلا يخفى علينا الأثر السلبي بعض الفتاوى على المجال السياسي؛ مثل الفتاوى التكفيرية التي خلطت بين المفاهيم الشرعية؛ فأباحت للشباب المسلم المندفع والمتحمس لتعاليم الإسلام قتل الأبرياء واستباحة دمائهم؛ وأجازت الشروع في تدمير ممتلكات الأمة والعبث بمصادر قوتها.
ويمكننا أن نرى الأثر السلبي لبعض الفتاوى أيضا عندما نرى توظيفا محموما للفتاوى في الصراعات السياسية الزائفة..
ثانيا: دور الإفتاء في التنمية الاقتصادية
يساهم الإفتاء في التنمية الاقتصادية للمجتمعات المسلمة من حيث المحافظة على الممتلكات؛ ودعم الاقتصاد؛ ومحاربة الفساد والغش والاحتكار؛ والمحافظة على المال العام؛ والدعوة إلى حسن الأداء الوظيفي؛ ومحاربة الواسطة، هذه الفتاوى وغيرها كثير تشكل أحد أهم اللبنات في محاولة الارتقاء باقتصاديات المجتمعات المسلمة؛ وذلك لما في الأحكام الدينية من خاصية القبول والتأثير في جميع المجالات؛ ولما للقيم والأخلاق الإسلامية من دور في تنشيط وازدهار الحركة الاقتصادية.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد؛ فقد وجدنا أن الفتاوى تفاعلت مع أهم أسس الاقتصاديات المعاصرة والتي تتمثل في أسواق المال؛ بحيث أصبح سلوك كثير من المستثمرين في هذه الأسواق يعتمد على الفتاوى في محاولة معرفة نوعية الشركات التي يسمح بالتداول في أسهمها من الناحية الشرعية، إلى أن وصل الحال بأن أقر بعض المحللين الاقتصاديين بأن الفتوى أصبحت عاملا ثالثا يتحكم بأسعار السوق إلى جانب عاملي العرض والطلب؛ وقد هذا ببعض المتنفذين إلى إقحام الفتوى في المنافسات الاقتصادية لتفضيل مؤسسة على أخرى ووصل الأمر إلى حد التضارب الذي حير المستثمرين.
ثالثا: دور الإفتاء في التنمية الاجتماعية
الإفتاء بما فيه من نشر حقائق الإسلام هو أحد أهم أساليب التوعية الاجتماعية في سبيل الرقي الاجتماعي ومحاربة الظواهر الاجتماعية السلبية التي أساسها الشريعة الإسلامية لها خاصية القبول والاستجابة؛ لأنها منزلة من لدن حكيم خبير.
وفيما يلي عرض لما يقوم به الإفتاء المعاصر من نشاط اجتماعي متعدد وهادف؛ وإن كنا في الواقع بحاجة لمزيد من التفعيل له.
1- صدرت بعض الفتاوى التي تدعو إلى رعاية بعض الفاءات الاجتماعية المحرومة مثل الأيتام والقصر والمعاقين.
2- اعتنت الكثير من الفتاوى بمشكلات الشباب: كالعنوسة والاغتراب والوحدة والإعراض عن الزواج وعلاء المهور؛ بل دعت بعض الفتاوى إلى إقامة المشاريع لحل هذه المشكلات من حث لدفع الزكاة لتزويج الشباب؛ وإقامة المؤسسات لمساعدة الشباب.
3- تنمية السلوكيات الحميدة والأخلاق الفاضلة كان مدار الكثير من الفتاوى مثل الحث على بر الوالدين وصلة الأرحام والتراحم والتكافل بين أفراد المجتمع الواحد.
4- محاربة السلوكات والأخلاق الذميمة مثل الكذب والغش والفحش في القول خاصة أن مثل هذه الأخلاق لها آثر سلبية اجتماعيا واقتصاديا.
5- الدعوة إلى إصلاح ذات البين بين مختلف طبقات المجتمع.
6- تنمية الأواصر والعلاقات بين المجتمعات الإسلامية والإنسانية وخاصة في حالة الكوارث والمصائب من خلال فتاوى تحث على مساعدتهم ماليا.
7- التوعية الاجتماعية بحرمة العلاقات الجنسية خارج الإطار الزوجية وما ينتج عنها من سلبيات؛ حيث عمل الإفتاء على الحد من ظاهرة الأطفال اللقطاء؛ كذلك الحد من عدد مرضى السيدا؛ تلك الطبقة التي تحتاج إلى رعاية صحية واجتماعية مكلفة.
8- الحث على دف الزكاة لطبقة الفقراء والمساكين وإقامة المشاريع المنتجة لهم وذلك في محاولة لمعالجة مشكلات الفقر والبطالة ونتائجها الاجتماعية السلبية.
ولا يقتصر دور الإفتاء التنموي على تلك المجالات فحسب بل تعداها إلى مجالات أخرى كالصحة مثلا وذلك من خلال بيانه لحرمة المطعومات والمشروبات الضارة بعقل الإنسان وصحته كتحريم الدخان والمخدرات والمسكرات ودعوته على سلوكيات وعادات صحية مفيدة مثل النظافة في البدن والملبس والاحتراز من النجاسات والقاذورات كذلك إعطاء الجسد حقه من الراحة وعدم تكليفه بما يشق
بناء على ما سبق ذكره نرى أهمية وفائدة الربط بين الإفتاء المعتبر ومجلات التنمية المختلفة؛ حيث أثبتت التجربة العملية أن البشر أدعى للاستجابة لأحكام الدين وحقائقه وأسرع في تطبيق تلك الأحكام، إضافة إلى ما في هذه الأحكام من صلاح العباد، وهذا ما يدعو المؤسسات الحكومية والخاصة ومنظمات المجتمع إلى الاهتمام بعنصر الإفتاء المدروس عند طرح البرامج التنموية المختلفة. (فوضى الإفتاء؛ د.أسامة عمر الأشقر).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *