نبوغ عبد الله كنون.. نبوغ مغربي

سجل التاريخ الأدبي المغربي للأستاذ عبد الله كنون حضورا متميزا ونشيطا، فهو الباحث الذي لا يمل والأديب الفاحص المتمكن من أدواته، لا يغفل حديثا أدبيا أو تاريخيا أو اجتماعيا يتعلق بالمغرب أو العالم العربي والإسلامي دون أن يلم به إلماما، ملتزما بمبادئه وصريحا في آرائه. 

ولعل أهم ما أنجزه عبد الله كنون في ميدان البحث الأدبي كتابه: «النبوغ المغربي في الأدب العربي» و«أحاديث عن الأدب المغربي الحديث»، وهما معا يشكلان تاريخا للأدب المغربي قديمه وحديثه، وقد نوه الكثير من الأدباء والباحثين بالكتاب الأول «النبوغ المغربي في الأدب العربي»، كما حظي الكتاب الثاني باهتمام الباحثين والدارسين والمهتمين بالأدب المغربي الحديث في المغرب والمشرق، وكان الدافع إلى تأليف الكتاب الأول هو ما لاحظه المؤلف من جهل وإهمال المؤرخين والباحثين العرب للأدب المغربي وتاريخه، فنفض عنه الغبار وأثبت وجوده لأولئك الذين شككوا في أن يكون لهذا البلد أدب كباقي الدول العربية الأخرى، ويقول في هذا المضمار: «ظلت الآداب المغربية منسية طيلة الثلاثة عشر قرنا الماضية، وكان هناك عاملان يتعاونان على بقائها مغمورة لا تلفت نظر أحد ولا تستثير اهتمام باحث..
أولهما: انصراف المؤرخين المغاربة سواء منهم مؤرخو السياسة ومؤرخو العلم عن تسجيل الناحية الأدبية من تاريخ الفكر المغربي وإعطائها ما تستحقه من العناية والدرس والتمحيص! بل وتعمد إغفالها وغمطها وهضمها…
وثانيهما: اختلاط تاريخ أدب المغرب والأندلس وتعود الناس على نسبة كل فضل وعبقرية للجزيرة، بداعي النبوغ العظيم الذي أبداه أهلها في العلوم والآداب… وعلى كل حال فلقد عرف أبناء المغرب أخيرا هذا الأمر وأخذت الأقلام المثقفة تعالجه من شتى النواحي، وصدرت بحوث مهمة في هذه القضية».
لقد بذل الأستاذ عبد الله كنون مجهودا كبيرا في جمع ودراسة النصوص الأدبية وتصنيفها والتعليق عليها وإثبات مصدرها شعرية كانت أم نثرية، ويجب أن نتصور الفترة التاريخية التي ألف فيها الكتاب والصعوبات التي اعترضت الكاتب، وهي فترة صعبة ومنغلقة وقد حددها الدكتور عباس الجراري فيما يلي: «كتاب النبوغ المغربي لا يمكن أن نتحدث عنه إلا لنقر بأنه فريد في بابه، وأنه سبق إلى طرق باب من أبواب التأليف لم تكن معهودة أو معروفة عند المغاربة، الأدب والتأريخ للأدب جديد بالنسبة لاهتمامات المغاربة، ليس لأنهم لم يكتبوا الأدب، بل لأنه مشتت ومفرق في كتب كثيرة ومظان متنوعة، إنه في كتب التراجم والطبقات والتاريخ والرحلات والنوازل والفقه، وأن يأتي عالم متمكن وأن يضع يده على هذه المصادر ليخرج منها شيئا يكون نواة كتاب النبوغ، فعمل جليل له قيمته وله أهميته، ذلك أن الحديث عن الأدب في حد ذاته في فترة تأليف كتاب النبوغ لم يكن درسا أو موضوعا يهتم به كبقية العلوم المتدارسة في المساجد، بل كان هناك من العلماء من يحارب درس بعض العلوم ومن بينها الأدب…».
وقد اعترف بأهميته شكيب أرسلان رحمه الله حيث قال: «من لم يطلع على هذا الكتاب لا يحق له أن يدعي في تاريخ المغرب الأدبي علما ولا أن يصدر على حركته الفكرية حكما… إن من لم يقرأ كتاب “النبوغ المغربي في الأدب العربي” فليس على طائل من تاريخ المغرب العلمي والأدبي والسياسي».
أما كتابه الثاني «أحاديث عن الأدب المغربي الحديث» فقد كان تكملة للعمل الأول، وهو عبارة عن محاضرات ألقاها المؤلف على طلبة قسم الدراسات الأدبية واللغوية في معهد الدراسات العربية العالية لجامعة الدول العربية بالقاهرة؛ وتحمل العلامة عبد الله كنون المشاق من أجل جمع مادة هذا الكتاب لأن جلها لم يكن مدونا أو منشورا في كتب يعتمد عليها نظرا لقلة وسائل النشر وتيسيرها، ونظرا لظروف الاحتلال الصعبة، ويعترف المؤلف بذلك قائلا: «قبلت القيام بالمهمة، ولم يسعني إلا النزول عند رغبة هؤلاء الأفاضل… ولا أخفي أنني من أول وهلة اعتزمت أن لا أتصل بأحد لا بالكتابة ولا بالشخص، تخففا من المتاعب وتجنبا لضياع الوقت الذي غالبا ما يكون بغير طائل، وأن أكتفي بما عندي من مواد ومراجع أكثرها من الجرائد والمجلات التي صدرت في المغرب منذ بداية هذا القرن، وفعلا فقد نفضت ما لا يقل عن عشرة آلاف صحيفة وانتقيت منها ما يلزمني لهذا العمل ثم صنفته كما يجب وراعيت الإكثار من النصوص والنماذج لأني رأيت بعضها إذا طالت المدة سوف يدخل في خبر كان، ولأني أيضا أردت أن أقول بالحجة وأحكم بالدليل».
وبهذا يكون العلامة عبد الله كنون قد كتب للمغرب تاريخه الأدبي القديم والحديث.
فرحم الله الشيخ رحمة واسعة؛ وأسكنه فسيح جنانه؛ آمين.
مأخوذ من مقال “عبد الله كنون الباحث الأدبي” لمحمد القاضي، مجلة دعوة الحق. مع التصرف فيه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *