الحمد لله رب العالمين والصلاة السلام على من بُعث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، “اللهم إنّا نَعوذ بك من فِتنة القول كما نعوذ بك من فتنة العمل، ونعوذ بك من التكلُّف لما لا نُحِسن كما نعوذ بك من العُجْب بما نحسن، ونعوذ بك من السَّلاطة والهَذَر، كما نعوذ بك من العِيّ والحَصَر”.
وبعد: فقد اطلعت على قصيدة بعنوان: “القصيدة العصماء في نصرة سيد الأنبياء”، نشرتها جريدة السبيل في عددها الثاني عشر، فوجدت فيها أبياتا منتحلة، وأوزانا غير مستقيمة، فأحببت أن أسجل عليها بعض الملاحظات والتعقيبات رجاء حصول النفع بها. وقد اقتصرت في ذلك على محورين رئيسيين هما: وحدة المعاني والأفكار في القصيدة (وهي التي يعبر عنها بالوحدة العضوية) والمحور الثاني: السرقات الشعرية، بالإضافة إلى التنبيه على تكسر بعض الأوزان.
فأقول وبالله التوفيق:
الوحدة العضوية للقصيدة أن تكون بنيةً تامَّةَ الـخَلْقِ والتكوين، فالقصيدة كما قال ابن رشيق القيرواني مثلها مثل خَلْقِ الإنسان في اتصال بعض أجزائها ببعض.
قال الجاحظ: “وأجود الشعر ما رأيته متلاحم الأجزاء سَهْلَ المخارج”.
وقال ابن قتيبة: “وتَـتَبَـيَّنُ التكلُّفَ في الشعر أيضا بأن ترى البيت مقرونا بغير جاره.. ولذلك قال عمر بن لجأ لبعض الشعراء: أنا أشعر منك. قال: بم ذلك؟ قال: لأني أقول البيت وأخاه، وأنت تقول البيت وابن عمه”.
قال ابن طباطبا العلوي: “وأحسن الشعر ما ينتظم القول فيه انتظاماً يتسق به أوله مع آخره على ما ينسقه قائله، فإن قدِّم بيت على بيت دخله الخلل”.
وقال: “يجب أن تكون القصيدة كلها ككلمة واحدة في اشتباه أولها بآخرها، نسجاً وحسناً وفصاحة، وجزالة ألفاظ، ودقة معان وصواب تأليف، ويكون خروج الشاعر من كل معنى يصنعه إلى غيره من المعاني خروجاً لطيفاً”.
والقصيدة عنده قريبة من الرسالة؛ فإذا حُلَّت القصيدة الجيدة وجُعِلت نثرا بقيت قوية المعنى، وفي ذلك يقول: “فمن الأشعار أشعارٌ محكمةٌ متقنةُ الألفاظِ حكيمةُ المعاني، عجيبةُ التأليف إذا نُقِضَتْ وجُعِلت نثراً لم تَبْطُلْ جودةُ معانيها، ولم تُفقَد جزالةُ ألفاظها”.
والناظر في هذه القصيدة “العصماء”يرى أنها افتقدت هذه الوحدة، وأن بعض أبياتها يفقد التسلسل في الأفكار والمعاني، والكثير من تلك الأبيات غيرُ خاضع لما قبله؛ بل هو منفصل عنه مباين له، وبعض المعاني حقها التقديم فأُخِّرت، وأخرى حقها التأخير فَصُدِّرَت.
أما فيما يتعلق بموضوع السرقات فهو باب واسع في النقد العربي، لذلك تناوله النقاد بمزيد من العناية والاهتمام، وهذا الباب من أحوج أبواب النقد وأكثرها تطلبا للعدل والإنصاف.
وسرقة الأشعار تنقسم إلى محمود ومذموم؛ فالمحمود من ذلك هو ما يكون في المعاني العامة المتداولة، أو الأمثال السائرة أو أخذ معنىً في غرض ما ونقله إلى غرض آخر.
والمذموم من ذلك هو سرقة اللفظ أو المعنى البديع المخترع، أو الإغارة على بيت بِرُمَّتِه وانتحاله، أو أخذِ المعنى وبعض اللفظ، وقد قسمها العلماء أقساما كثيرة.
وكانت فحول الشعراء تستقبح سرقة الأشعار؛ كما قال طرفة:
وَلا أُغيرُ عَلى الأشعار أسْرقُها*** عَنْها غَنِيتُ وَشَرُّ النّاسِ من سَرَقا
وقال الأعشى:
فَكَيْفَ أَنَا وَانْتِحَالِي القَوَافِي *** بَعْدَ الـمَشِيبِ كَفَى ذَاكَ عَارُ
على أن بعض الشعراء كان يستبيح سرقة الأشعار؛ فقد نقل المرزباني عن أحمد بن طاهر قال: “كان الفرزدق يسلط على الشعراء ينتحل أشعارهم، ثم يهجو من ذكر أن شيئا انتحله أو ادعاه لغيره، وكان يقول: ضَوَالُّ الشعر أحب إلي من ضوال الإبل، وخير السرقة ما لم تُقْطَع فيه يد”.
وصاحب القصيدة “العصماء” ضرب في هذا الباب بالنصيب الأوفر، فجُلّ ما ضمنه قصيدته قد أخذه من غيره، خاصة قصيدة ناصر الحمد في السيرة النبوية، فقد أخذ منها ما يقارب ثلاثين بيتا، كما ضمنها بعض أبيات البردة لشرف الدين البوصيري، وأبياتا أخرى غَـيَّرَ بعض ألفاظها محافظا على وزنها ومعانيها. هذا على سبيل الإجمال، أما من حيث البيان والتفصيل: فيمكن تقسيم هذه الأبيات التي أغار عليها صاحب القصيدة إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أخذ المعنى واللفظ برمته؛ أي أخذ البيت كما قاله صاحبه من غير تغيير فيه:
ومن أمثلة هذا القسم:
– ميمية تصهر الأكبـاد تـشعلها *** يكاد سـمَّعها! أن يأخذوا قلمي
– ألقوا من الهم أكـواما وهمـهم *** أن يطفئوا خير نور في ذرى القمم
– وكان ذاك منار الصدق مـعجزة *** بكل شيء ترى أعجوبة القـدم
– صنف وألف وقل شعرا فما فعلت *** يداك إلا كأبعاض مـن الـشيم
– لكنهم يبتغون الصد عن رجل *** لهم عدو لما قد قال في الصنم
– ونشهد الله أن الحِبَّ بلـغنا *** دينا تماما عظيم الشأن والنعم
– لكننا اليوم ضيعنا مــنارته *** أما لنا توبة لله ذي الـكرم
وهذه الأبيات كلها من قصيدة السيرة النبوية.
ومن أبيات البردة للبوصيرى التي أخذها:
– بشرى لنا معشر الإسلام إن لنا *** من العناية ركنا غير منهدم
– وكيف يدرك في الدنيا حقيقته *** قوم نيام تسلوا عنه بالحلم
القسم الثاني: أخذ المعنى وبعض اللفظ، أو بعض المعنى وبعض اللفظ؛ ومن أمثلة ذلك:
قوله: خطت أنامل قلب دمع مُضْطَرِمِ *** بِذِي القصيدة مخزون مِنَ الأَلَمِ
أخذه من قول صاحب قصيدة السيرة:
خَطَّتْ مَحَاجِر حبري دَمْع مُنْحَجِم *** بِذِي القَصِيدَة مخزونٌ مِنَ الأَلَمِ
وقوله: سَبُّوهُ وَابْتَذَلُوا الإِيذَاءَ مُرْتَسَماً *** وَأَطْلَقُوا تُرَّهَاتِ الزَّيْغِ وَالغَشَمِ
أخذه من قوله:
شَجُّوهُ وَابْتَذَلُوا الإِيذَاءَ مُرْتَسَماً *** وَأَطْلَقُوا تُرَّهَاتِ الزَّيْغِ وَالغَشَمِ
وقوله:فَأَعْظَمُوا الجُرْحَ حَتَّى عَمَّ جُرْحُهُمُ *** وَأَظْهَرُوا الشَّتْمَ لَمْ يَأْلُوا بِمُحْتَرِمِ
أخذه من قوله:
فَأَعْظَمُوا الجُرْحَ حَتَّى عَمَّ جُرْحُهُمُ *** وَأَظْهَرُوا الغَدْرِ لَمْ يَأْلُوا بِمُحْتَرِمِ
وقوله:أُصْمُتْ وَلاَ تُبْدِ حَرْفاً فَالشُّمُوسُ *** إِذَا بَدَتْ مَحَتْ سَالِفَ الأَنْوَارِ وَالظُّلَمِ
أخذه من قوله:
أُسْكُتْ وَلاَ تُبْدِ حَرْفاً فَالشُّمُوسُ إِذَا *** بَدَتْ مَحَتْ سَالِفَ الأَنْوَارِ وَالظُّلَمِ
وهذه الأمثلة كلها مأخوذة من قصيدة السيرة، وهناك أمثلة أخرى من هذا القسم أعرضت عنها رغبة في الاختصار. ومن الأمثلة التي أخذها من صاحب البردة:
قوله: يَا نَفْسُ لاَ تَقْنُطِي مِنْ فِتْنَةٍ عَظُمَتْ *** إِنَّ الشَّدَائِدَ فِي التَّيْسِيرِ تَنْعَدِم
أخذه من قول البوصيري: يَا نَفْسُ لاَ تَقْنُطِي مِنْ زَلَّةٍ عَظُمَتْ….
وقوله:تَضَوَّعْ مِن كُلِّ مِسْكٍ وَخُذْ مُلْتَمَساً *** غرفا من البحر أو رشفا من الديم
أخذه من قول البوصيري:
وَكُلُّهُمْ مِنْ رَسُولِ الله مُلْتَمِسٌ *** غَرْفاً مِنَ البَحْرِ أَوْ رَشْفاً مِنَ الدِّيَمِ
وقوله: يَا لاَئِمي في الهَوَى إِنِّي لَمُغْتَبِطٌ *** إِلَيْكَ عَنِّي وَلَوْ أَنْصَفْتَ لَمْ تَلُمِ
أخذه من قول البوصيري:
يَا لاَئِمِي فِي الهَوَى العُذْرِيِّ مَعْذِرَةً *** مِنِّي إِليْكَ وَلَوْ أَنْصَفْتَ لَم تَلُمِ
القسم الثالث: إحالة المعنى إلى ما دونه، أي أخذ اللفظ الرصين والمعنى البديع ونقله إلى معنى ركيك دون المعنى الأول، ومن أمثلة هذا القسم قوله:
فَلاَ يُقِيمُ عَلَى ضَيْمٍ يُرَادُ بِهِ *** إِلاَّ الأَذَلاَّنِ مِنَ العَيْرِ وَالغَنَمِ
أخذه من قول الـمُتَلمّس المشهور:
فَلاَ يُقِيمُ عَلَى ضَيْـــمٍ يُرَادُ بِهِ *** إِلاَّ الأَذَلاَّنِ عَــيْرُ الحَيِّ وَالوَتِدُ
هَذَا عَلَى الـخَسْفِ مَرْبُوطٌ بِرُمَّتِهِ وَذَا يُشَجُّ فَلاَ يَــرْثِي لَهُ أَحَدُ
وهذا معنى مشهور أخذه المتلمس من المثل السائر: “أَذَلُّ من الحمارِ والوَتِد”، ومن قولهم: “هُوَ أَذَلُّ مِن حِمَارٍ مُقَيَّد”. فعَمَد صاحبنا إلى هذا المعنى المشهور المبذول المتداول، وغَيَّره إلى معنى جديد ضرب فيه للذل والهوان مثلا بالعَيْرِ والغنم، فجاء المعنى ركيكا خارجا عما تعرفه العرب مع تكسر الوزن، وأفضح السرقة هو ما يكون من هذا القبيل كما قال العلماء.
ومن أمثلة ذلك قوله:
لَوْمَا النَّارُ اشْتَعَلَتْ بِالَّذِي قَدْ جَاوَرَتْ *** لَمْ يُدْرَ أَطْيَبُ العُودِ مِنْ كُلِّ الحُطَمِ
أخذه من قول أبي تمام المشهور:
لَوْلاَ اشْتِعَالُ النَّارِ فِيمَا جَاوَرَتْ *** مَا كَانَ يُعْرَفُ طِيبُ عَرْفِ العُودِ
فنقل معناه ومعظم لفظه من بحر الكامل إلى بحر البسيط فاختل تركيبه وضَعُفَ تأليفه، فجاء رديئا مُكَسَّرَ الوزن ثَقِيلاً على السمع غَامِضَ المعنى.
ومن أمثلة ذلك قوله:
فَكَيْفَ تُنْكِرُ فَضْلاً بَعْدَمَا شَهِدَتْ *** بِهِ عَلَيْكَ الأَيَادِي وَكُلُّ الشِّيَمِ
أخذه من قول البوصيري:
فَكَيْفَ تُنْكِرُ حبا بَعْدَمَا شَهِدَتْ *** بِهِ عَلَيْكَ عُدُولُ الدَّمْعِ وَالسَّقَمِ
ولا يخفى فرق ما بين البيتين، وبعد ما بين المعنيين، فالأول مكسورُ الشَّطْر الثاني مُتَكَلَّفَ المعنى، بينمَا الثاني لَطِيفُ المعنىَ حُلْوُ اللَّفْظِ تَامُّ البيان مستقيمُ الوزن.
وهذه الأقسام الثلاثة ذكرها ابن الأثير في كتابه المثل السائر، وسمى القسم الأول: نَسْخاً أخذا من نسخ الكتاب، وسمى القسم الثاني: سَلْخاً أخذا من سلخ الجلد وهو بعض الجسم، وسمى القسم الثالث: مَسْخاً أخذا من مسخ الآدميين قردة.
فكانت هذه الأقسام جملة ما أخذه صاحب القصيدة من غيره وأغار عليه، وهو يمثل ثلاثة أرباع القصيدة، ولم يسلم له من ذلك إلا عَشَرة أبيات جاءت مُكَسَّرَةً لم يستقم وزنها.
وقد أسماها صاحبها بـ: (القصيدة العصماء) من باب تسمية اللَّدِيغِ سَلِيماً والمهْلَكَةِ مفازَةً، فليس فيها من بديع المعاني جديد، ولا من الألفاظ المستجادة نصيب، والأبياتُ التي انفرد بها ليس فيها معنىً يُستخرج ولا مثلٌ يضرب، ولا مديحٌ رائع، ولا هجاءٌ مُقذِع، ولا فخرٌ مُعْجب، ولكنْ حسبها أن تكون محاولات وبدايات نرجو لصاحبها التوفيق والسداد، وننصحه بالاعتماد على قريحته وسجيته مع الاطلاع على أشعار من مضى، والتمرس عليها دون انتحالها والتشبع بها.
وليس مقصودي من هذا النقد هو الهدم، ولكنه تقويم وتسديد وبيان يستنير به طالب الحق والهدى.
هذا والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
كتبه أبو المساكين
عبد المجيد بن محمد أيت عبو