مقومات بلاغة الخطاب وفصاحته( )

قال الإمام عبد القاهر الجرجاني: “..من المعلوم أنه لا معنى لهذه العبارات [معنى البلاغة والفصاحة..] وسائر ما يجري مجراها مما يفرد فيه اللفظ بالنعت والصفة، وينسب فيه الفضل والمزية إليه دون المعنى( )، غيرُ وصف الكلام بحسن الدلالة وتمامها، فيما له كانت دِلالةً( )، ثم تبرجِها في صورة هي أبهى وأزين وآنق وأعجب، وأحقُّ بأن تستولي على هوى النفس، وتنال الحظ الأوفر من ميل القلوب، وأولى بأن تطلق لسان الحامد، وتطيل رَغْم الحاسد”( ).

فهذه خصال ثلاث لتمام بلاغة الخطاب، هي له مقومات كلية، وهي كما ترى متعلقة بالدلالة، أي: دلالة الكلام على معناه، وليست متعلقة في المقام الأول بالألفاظ من حيث هي، وبالمعاني من حيث هي.
ثم أتبع الإمام ذلك البيان لخصال تمام بلاغة الخطاب ببيان الطريق إلى تحقيقها بقوله: “ولا جهة لاستعمال هذه الخصال غير أن تأتيَ المعنى من الجهة التي هي أصح لتأديته، وتختارَ له اللفظ الذي هو أخص به، وأكشف عنه، وأتم له، وأحرى بأن يكسبه نبلاً ويظهر فيه مزية”( ).
فالطريق جامع بين عنصري الكلام (الدال، والمدلول)؛ فالمدلول/المعنى له طريق يأتيه البليغ منه {وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا}، وكأنّ الإمام يشير إلى أن ثقافة البليغ بكثرة الرواية والتبصر لطرائق الأئمة في الإبداع إلى معانيهم، والوقوف على مذاهبهم إلى مراداتهم هو المهيع الملحب( ) إلى الوصول إلى المعنى، الذي يراد تصويره وتوصيله، ولولا سلوك تلك المذاهب المطرفة من الأئمة المبدعين، لما تحقق بين الأديب والمتلقي تواصل ولما أمكن المتلقي أن يستدل بملفوظ الأديب على مكنونه.
والدال/اللفظ لا بد أن يتم اختياره على أسس خمسة:
• أن يكون أخصّ بمعناه، فليس هنالك لفظ يقوم مقام لفظ آخر هو به أخص، فالبيان الأدبي لا يعرف الترادف، بل ولا يعرف التواطؤ.
• وأن يكون اللفظ أكشف عن معناه، بحيث لا يستبقي من خبيات معناه مالا يمكن للأشعة أن تبلغه.
• وأن يكون اللفظ أتم للمعنى بحيث يحيط بكل دقائقه ورقائقه وشوارده وأوابده، فلا يحتاج الأديب إلى غير اللفـظ يتمم به معنــاه من عجز في اللفظ الذي اختار، ومن ثم فليس كل لفظ بالقدير على الإيفاء بحق المعنى المراد.
• وأن يكون اللفظ أحرى بأن يكسب المعنى نبلاً لا يكون له إذا لم يكن هو المعبر عنه، والدال عليه، فكأن في بعض الألفاظ من العطاء الزائد للمعاني ما ليس لبعضها، إما بجرسها أو صيغتها أو موقعها.
• وأن يكون اللفظ أحرى بأن يُظهر في المعنى مزية خبيئة لا تظهر بغيره.
وكأن الأساس الخامس (يظهر فيه مزية) متجاوب مع الأساس الثاني (وأكشف له)، والأساس الرابع: (أن يكسبه نبلاً) متجاوب مع الأساس الثالث (وأتم له)( ).
وهنا يقذف السؤال: أيّ العنصرين مناط بلاغة الخطاب؟
لفظه أم معناه؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *