يوميات مدرس جديد -تابع- ذ. إبراهيم أنفلوس

..تقف الحافلة على مدخل طريق ثانوية، فتغادر وقد خلفت الأستاذين وراءها تحت ضباب دخانها. المكان شبه خال، سيارات أجرة دون أصحابها، نخل كثيف على جنبات وادي درعة باسق بنظرته كأنه يحرس المكان، مقهى وحيد يبدو مقفلا تملأ ساحته كراسيه، كوخ شبه خرب مكتوب عليه بخط سوقي: مرحاض درهم واحد. قصده أحد الأستاذين فلاذ بالفرار من خبث ما رأى وما شم؛ فراغ إلى الفضاء. وفي جو هذا الصباح نسيم ينعش النفس لولا أرجال من البعوض تنغص راحة ضيف المكان.
انتظار طويل.. أعقب قطيعة غير متعمدة بين الزميلين، فطول الطريق أذهبت نكهة المحادثة.
ومع بزوغ الشمس تروج الحركة، وينادي دلال سيارات الأجرة زبناءه. ليبدأ الأستاذان رحلة أخرى بحثا عن خبز بنكهة الطبشور.
الركاب يختلفون تماما عن الأولين، جلابيب خشنة رغم سخونة الجو، وعمامة تصل الذقن بالقفا، أصوات عالية غليظة بلغة محلية، طبع جاف بدوي يخدش حضرية الأستاذين ولطفهما وأدبهما.
السيارة تحمل أضعاف حمولتها القانونية، تكاد وأنت ترى المقاعد الأولى فيها لا تعرف السائق من الزبون، ونظرات الأستاذين تستنكر الوضع وسط حوارات متداخلة بلغة لم يعهداها، لكنهما يدريان أنهما موضوع حلقة ذلك اليوم، فيتناول الدرس حسب ديداكتيك الفضول: الملاحظة ثم التحليل ثم الاستنتاج، ولا تغفل أعين الركاب وألسنتهم شيئا من الغريبين من أخمص أقدامهما مرورا بحقائبهما ومحفظتيهما ووصولا إلى آخر شعرة من رؤوسهما.
تزيد وحشة الأستاذين، ويزداد الضغط على نفسيتهما، فيحاولان المؤانسة، فيخوضان في وصف أهل هذه البلاد، بإيماءات وإشارات ساخرة تنتهي بضحكات سافرة مريبة.
تطول الرحلة، وخلالها يلقي السائق نظراته إلى المرآة المظهرة للمقاعد الخلفية، ويصوب بصره إلى أحدهما، ليبدأ محضر التحقيق، ويعم الصمت والإنصات. لم يألف الأستاذ هذا الأمر، ولا يعرفه إلا في مكاتب الشرطة، لكنه يعرف أنه زائر غريب، فيجيب ممتعظا.
يقطع زميله الأسئلة بالاستفسار عن المكان، والاستيضاح عن مكان تعيينه؛ كلما مرت السيارة على دشر من الدشور، أو دوار من الدواوير إلا ويعاود السؤال عن الوصول. لكنه يفاجأ بضحك الركاب فيصمت. فهم يعلمون أن مكان تعيينه، بعيد أكثر مما يتصور، ولاتزال سلسلة من الرحلات في انتظارهما.
ثم يأتي الجواب مع وقوف السيارة ليدل الأستاذين على مكان للوقوف، لينتظرا من جديد. والحزن المتحكم في صدور الأستاذين، أنساهما لذة الفرح بالوظيفة، وأدخلهما إلى متاهة الفكر متى سيحل اليوم الذي سينتقلان فيه.
بعد أن سدا رمقهما في إحدى مقاهي المكان، بدآ بالسؤال عن بلدة التعيين، فيجابان في عدة مرات بجواب يذيل بأسئلة التحقيق. ثم عرفا أن مكان التعيين تأخذ إليه سيارة واحدة من المؤسف أنها غادرت قبل مجيئهما. غير أن النقل المزدوج لا يأتي إلا في ساعات الليل الأولى.
توالد الحديث بين الأستاذين من جديد، آخذا منحى المواساة والتخفيف هذه المرة. أحدهما: مع كل هذا فالتعليم وظيفة مليئة بالعطل، سوف تتمتع بالراحة.
الآخر: زد على ذلك أنه من الممكن الانتقال بعد سنوات فقط، أعرف كثيرا من الأساتذة ولوجوا إلى المجال الحضاري بعد مدة.
لكنه سرعان ما يعود الإحساس بالنكبة إلى الحديث.
الأول: لا يحزنني أن آتي إلى هذه القفار، لكن الذي يقطع كبدي كيف كنت في المرتبة الأولى ثم لم أحظ بتعيين جيد، وكان ذلك من نصيب الإناث اللواتي لم يكن لهن مستوى متميز في مركز التكوين.
الآخر: صدقت، لكن القانون أن الأنثى يزاد في رصيدها خمس نقط لذلك تتمتع دائما بتعيين أحسن من الذكور.
الأول: عجبا يا أخي، صرنا أكثر علمنة من فرنسا. أوليست الدول الغربية تساوي الأنثى بالرجل في كل شيء؟ فما بالهن في مغربنا صرن أكثر حقوقا منا نحن الرجال.
الأول: ما دامت الأنثى رضيت بأن تدخل سوق العمل فلترض بمساواتها مع الرجل في كل شيء حتى في التعيين.
ويطول حديثهما وأعين المارة ترمقهما، فيتضجران من ذلك وتتفجر أفواههما بسلسلة من الشتم والسب للمنطقة وأهلها، وينصب وابل التهم واللوم على الوزارة والمسؤولين.
حضر النقل المزدوج.
فودع الأستاذ زميله الذي كان عليه أن ينتظر ثانية ليجد من يحمله إلى مكان تعيينه، فركب خلف صاحبه وقد ألقى عليه الليل بردته، بعد أن بدأت حركة الناس في هذا المركز تقل، وتعقبها مطاردات الكلاب لبعضها، مصحوبة بنباح متواصل.
وصل النقل، ودُل الأستاذ الجديد على مسكن أحد الأساتذة القدامى، فيقصده، ويجد آخرين عنده مجتمعين، يتداولون أحوال الحركة، والسلالم، والرتب، والكفاءة، ويخوضون في حديث التعويضات عن المناطق النائية والإضرابات.. رحبوا بضيفهم. ثم أشركوه الكلام أخيرا لكن بما يسوءه؛ حكى أحدهم قصة معلم انتحر في هذه المنطقة بعد يأسه من الانتقال، وتحدث الآخر عن العقارب والهوام السامة، وعن انعدام الطبيب وكذا الممرض، وذكروا الأساتذة الذين كانوا ضحية المرض بسبب أوبئة البلدة، وبسبب المياه غير الصالحة للشرب؛ ثم انتقلوا إلى الحديث عن بلادة التلاميذ وغبائهم، وآثر أحدهما الحديث عن حوادث السير الخطيرة التي لا تفتأ تزور الطرق المؤدية إلى هذه المناطق، لتختطف وتعوق من قدر عليه ذلك.. ومشاكل تطول؛ سودت الحياة في وجه الأستاذ الجديد. ألقى الأساتذة كلامهم مخلوطا بضحك ومزاح، لكنه فعل فعلته في قلب الضيف.
في الليل بات الأستاذ مفكرا يتململ؛ كأن الفراش ينكره، ورغم عيائه فإن همّ التعيين جثم على صدره ليطرد النوم عن جفنيه، ومشاكل المنطقة تتصور أمام عينيه، وحتى لو ثقلت عينه في لحظة من اللحظات، وخلدت إلى شيء من الراحة، فإنها لا تطول؛ فينتبه فزعا متأثرا بكوابيس السموم، أو لسعات البعوض، وإزعاجات الذباب، أو صوت الصراصير التي تدق على الحصير كأنها العقرب.
ترسل شمس اليوم الأول أشعتها استقبالا للضيف في منفاه: فيسمع قبل أن يرى أصوات المارة والدواب، ثم تنفتح عيناه في غرفة زميله، على سقف خشبي يومئ بالسقوط، وقد علقت به أجحار الوزغ وشتى الحشرات الليلية، حصيرة بلاستيكية، على فراش نومه، أوراق منتشرة في المكان، صندوق كرطوني مليء بالكتب، محفظة تحكي بؤس صاحبها، شاشة تلفاز اقتناها الأستاذ من أحد أسواق البالي، تنتظر ساعات عملها حين تزود المنطقة بالكهرباء، وعلى الباب ملابس معلقة. والباب حديدي أشبه ما يكون بباب زنزانة.
ثم انتقل بنظره إلى النافذة فأطل: المكان يوحي بالحزن والكآبة، لا أمل للحياة هنا، حجر أسود، ورمال تلاعبها الرياح كلما هبت، وأشجار صحراوية متناثرة على وجه أرض قاحلة ممتدة، يتوسطها واد عريض طال عهده بالماء، وأناس لا تهدأ حركاتهم ذهابا ومجيئا، لكن إلى أين؟ لا حقول خضراء، ولا مصانع ولا معامل.. ساءل الأستاذ نفسه: ترى ما الذي جاء بهؤلاء إلى هنا حتى يعذبونا معهم؟!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *