عرف عهد السلطان محمد بن عبد الله ازدهارا أدبيا وافق ما كانت تعرفه البلاد من ازدهار عقدي وسياسي وعسكري واقتصادي و.. وممن ساهم من الأدباء تلك الحقبة في هذه النهضة: أبو العباس أحمد الغزال كاتب السلطان محمد بن عبد الله رحمه الله، ذكره صاحب سلوة الأنفاس بما يلي: “الأديب الكاتب الفقيه السيد المهدي الغزال، كان رحمه الله فقيها أديبا، بل كان آخر أدباء الوقت، بعثه السلطان سفيرا لجزيرة الأندلس مثل أبيه من قبله وألف في سفره رحلة ذكر فيها عجائب تلك الأرض، وله غيرها من التآليف، توفي رحمه الله سنة 1191هـ ودفن بصحن الزاوية الفاسية بفاس، وذكره صاحب الإتحاف من بين كتاب السلطان سيدي محمد بن عبد الله، كما ذكره من بين شعرائه، حيث سماه هكذا: “أبو العباس أحمد بن المهدي الغزال الحميري الأندلسي المالقي الفاسي السفير الكاتب المتوفى سنة 1191هـ، ويذكر فصولا من رحلته التي سجلها عن سفارته لإسبانيا والمعروفة بـ”نتيجة الاجتهاد في المهادنة والجهاد” وذكره صاحب الاستقصا من الكتاب المعتبرين للسطان محمد بن عبد الله، كما ذكر معه أحمد بن عثمان المكناسي، ولا نعلم شيئا عن تاريخ ولادة الغزال، إلا أننا نعلم أنه من أقران أبي القاسم الزياني، حيث ذكر هذا الأخير في الترجمانة الكبرى أنه بعد رجوعه من الحجاز مع والده سأل “عمن كان يألفه من الطلبة في القراءة والأنس، فوجد أكثرهم تعلق بخدمة السلطان سيدي محمد بن عبد الله” وذكر من بينهم صاحبنا الغزال، وأحمد بن عثمان المكناسي.
وحسب القصائد التي أوردها ابن زيدان في الإتحاف، يبدو الغزال متمكنا من صناعة الشعر، ومتمرسا به كل التمرس، وموجها عنايته بصفة خاصة إلى المدح الذي ألزم نفسه فيه بضروب من الطرق التي استنبطها، مجهدا نفسه في أن يأتي كل سنة بجديد وعن ذلك يقول عبد الرحمن بن زيدان في الإتحاف: “إلى أن فتح عليه في طريق ما سلكها قبله ذو ذهن ثاقب، ولا عبرها من سمت منه في الأدب مناقب” ومن ذلك ثلاث رسائل تحمل الأولى اسم “اليواقيت الأدبية بجيد المملكة المحمدية” وتحمل الثانية اسم “الأطروفة الهندسية، والحكمى الشطرنجية الأنسية”، أما الثالثة فوسمها ب “نتيجة الفتح المستنبطة من سورة الفتح” وقد ألزم نفسه في تلك الرسائل بضروب من التفنن والابتكار تلاعب فيها بالبحور والأوزان كما اهتم بذكر تواريخ أهم الأحداث في عهد السلطان محمد بن عبد الله عن طريق الرمز بالحروف، ومن ذلك قصيدة من بحر الوافر سماها “نزهة الملك المنصور، في مستعذب وافر البحور”:
(ر) حيب البذل بادي العدل مسدي *** جــزيل الفضـل عن كرم وجود
(فـ) ضائله الغزيرة ليس تحصـى *** ومن يحصي الجواهر بالعقود
وأخرى دعاها “نزهة الإمام الكامل في جواهر الكامل” ومنها:
(يـ) حـمــى ذمار المســـلمين بعـدله *** وبسيف حق كف كف المعتدي
(د) امت صنائعه الجميلة في الورى *** أمـــد المــدى أمـــدادها لم ينفد
(صـ) افي المشارب كوثري طـعمه *** فــي ورده نيل المنى والمقـصد
وقد تعمد لأن يفتح أبيات كل بحر بنفس الحروف التي وضع فيها أربعة أبيات في مربع كل بيت من بيوت ذلك المربع فيه تاريخ لبيعة الممدوح الذي هو حادي عشر المملكة المغربية، فاجتمع من بيوت ذلك المربع ستة عشر تاريخا أضاف لها قصائد على عددها الذي هو عدد البحور الشعرية، فجاءت كل واحدة من بحر، وافتتح حروف أوائل أبياتها بحروف الأبيات الأربعة الموضوعة في المربع، ثم أتى بعدها بستة عشر بيتا مفردا من كل بحر بيت، وفي نقط حروف كل بيت تاريخ وهذه الحروف جمعها في قوله “بعرف خطير” و”يشيد وصفا”.
وبديهي ألا نفاجأ باستعمال الجناس وباقي المحسنات، فقد كانت من مقومات الشعر على ذلك العهد، وخلو القصيدة منها كان يعرض صاحبها إلى أن يتهم بالقصور وعدم الإلمام بالبلاغة، كما يرمي الكتاب بذلك إذا خلت كتابتهم ورسائلهم من السجع على ذلك العهد أيضا، وليس على الناقد أو المؤرخ الأدبي أن يضيق صدره بظاهرة أسلوبية اعتبرت في عصر من العصور من مقومات الإجادة.
ومما ورد في الرسالة الثالثة قوله:
وأي عــــز وفخر *** لمن له الذكـــر ذاكــر
تلك السعادة ممن *** حاز العلى عـن أكابر
فكن إمام المعالي *** لأنعـــم الله شـــــــاكر
فقد بلغت الأماني *** وحزت أسمى الذخائر
أما في رسالته الثانية فيعتمد على سير قطعة الغرس في لعبة الشطرنج حيث تتألف فصول أربعة يعتمد في جمعها وتصنيفها على حروف أبيات وضعها في مثمن، وبدون شك فإن الغزال الذي كان يتوفر على براعة فائقة في هذه اللعبة، حيث انتصر على أحد كبراء الإسبان فيها كما حدثنا عن ذلك في رحلته السفارية الآنفة الذكر، حاول أن يقتبس منها هذا الأسلوب في رصف بعض الأبيات الشعرية، ولا ينسى أن يذكر أن طريقته تعتمد على أسرار الحروف وخواصها وأن ذلك مما كان يعتمده ملوك العجم واليونان، وتبعهم في ذلك العرب، وعلى أي فإن الطريقة التي نهجها الغزال تنبئ عن تمكنه من صناعة الشعر، وتلاعبه بموازينه وبحوره، وإخضاعها لغرضه في مدح ممدوحه، وذكر تاريخ بيعته، واسمه واسم أبيه وجده وأخبار مملكته، ولا نعدم أشياء من هذا القبيل عند ابن زيدون والمعتمد بن عباد، وابن الخطيب، وابن زمرك، وقبل ذلك بديع الزمان الهمداني صاحب الرسائل المنقوطة وغير المنقوطة، والأبيات التي تقرأ من أولها فتفيد معنى، فإذا عكست أفادت معنى آخر، كما يبدو لنا تمرس الرجل بعمود الشعر في قصيدته الطويلة النفس في مدح السلطان المولى محمد بن عبد الله، وفي هذه القصيدة نلاحظ اهتمام الشاعر باستقاء تشبيهات من الطبيعة، مما يؤكد ولوعه بها ومن ذلك قوله:
فيا لك روضا من بكـــاء غمــــامه *** تبسم من أثـــغار أكمــــامه الزهر
كأن به الأدواح تهــــتز نضــــــرة *** عرائـس تزهو فوقها حــلل خضر
كأن بهــا ورق الحــمائم سجـــــعا *** قيــــان لها في صوغ ألحانها جهر
كأن ثغور الأقحــوان مبـــــــــاسم *** تسلسل من ظلم الرضاب بها خمر
كأن الشفاه اللعـــس منـــها شقائق *** تنـــافس فيـــها تحــت قانئــــها در
كأن احمرار الورد في ريق الحيا *** خــدود غواني الغيد لاح بهـا بشـر
كأن ذبول النرجس الغــض عادة *** لواحـــظ من أهواه ماج بها ســحر
ويستمر على هذا النفس ليأتي بالمشبه به
خلال أمير المؤمنين (محمد) **** إذا صيغ فيه المدح أو نظم الشعر
ومما يزيد من قيمة هذه القصيدة ما تحفل به من معلومات تاريخية ووصف لمجد المغاربة على ذلك العهد وانتصاراتهم الباهرة على مختلف الدول الأجنبية الغازية، وافتكاك بعض الثغور كقوله:
تزلزل أهل الشرك منها وأذعنوا *** وعــــــم علــى آفاق أجناسهم قهر
وصاروا عبيدا من مهابة بأسـها *** ولم ينجهم في الأرض بر ولا بحر
يؤدون بالإذلال والهون جـــزية *** يقـــون بها الأنفـاس فهي لهم عمر
وكقوله:
كما حاق بالمهدوية الخير جهرة *** وحل بها من سوء أفعالها خسر
تصدى لها فخر الملوك بغزوة *** تزعزع منها الجو والبر والبحر
إلى أن يقول:
فيا لك من عز تكامل سعده ويا لك من فتح به سمح الدهر
وفي عرضه لمناقب السلطان يقول:
وعادت رياض العلم عابقة الشذا *** تغرد من أفنان أدواحها الطير
وشـــدت ذُرَا الآداب فاعتز أهله *** وصـــار لهـم في شاسعة فخر
المقال لمحمد الأمري بتصرف
انظر دعوة الحق العدد الرابع
السنة الثانية عشر ذو الحجة 1388/مارس 1969