الْفرق بَين أما وَإِمَّا
أَن أما للاستئناف بتفصيل جملَة قد جرى ذكرهَا نَحْو قَول الْقَائِل أَخْبرنِي عَن أَحْوَال الْقَوْم فَتَقول مجيبا لَهُ أما زيد فخارج وأما عَمْرو فمقيم وَأما خَالِد فَسرق وَكَذَلِكَ إِذا قلت حرف كَذَا على أَرْبَعَة أوجه أما الأول فَكَذَا وَأما الثَّانِي فَكَذَا وَهَكَذَا حَتَّى تَأتي على تَفْصِيل جملَة الْعدَد الَّذِي بدأت بِهِ وَلَيْسَ كَذَلِك إِمَّا لِأَن مَعْنَاهَا معنى أَو فِي الشَّك والتخيير وَالْإِبَاحَة وَأخذ الشَّيْئَيْنِ على الْإِبْهَام لَا فرق بَينهمَا إِلَّا من جِهَة أَنه بـ إِمَّا شاكا نَحْو ضربت إِمَّا زيدا وَإِمَّا عمرا فَإِذا أتيت بـ أَو دللت على الشَّك عِنْد ذكر التَّالِي نَحْو قَوْلك ضربت زيدا أَو عمرا.
شرح المشكل في شعر المتنبي
قال المتنبي:
) أحْيا وأيْسَرُ ما قاسَيْتُ ماقَتَلاَ … والبيْن جاَرَ عَلَى ضَعْفِي وما عَدَلا)
يجوز أن يكون أراد: أحْيَا وأيسرُ ما قتلني، أو ما من شأنه أن يقتل، وإذا كان أيسر ما قاسيته قاتلا، فما بأكثره وأشدّه. وهذا على وجهين: إما أن يكون تعجب من ذلك فقال: أنا في حال حياة، وأقل ما لاقيته قاتلٌ، وإما أن يكون طمع بالحياة فأنكر ذلك، فقال: كيف أحيا مع هذه (الحال)، فهذان وَجْها إرادةِ الاستفهام. وقد يكون أحيا خبراً، أي أنا أحيا، وهذه حالي، أي تجلدي، يتعجب من صبره، وقد يكون (أحيا) اسماً يدل على المفاضلة، أي: أثبتُ ما قاسيته لحياتي ما قتل، وهذا غُلوٌّ وإفراط، لأنه إذا كان ما قاله أثبت شيئا لحياته، لم يبق له ما يوجب الموت.
) وَضَاقَتِ الأَرضُ حتى كان هارِبُهم … إذا رأى غيرَ شيء ظَنَّه رَجُلا)
أما الرؤية فلا تقع على غير شيء، لأن غير شيء ليس بمحسوس إحساس الجوهر، ولا إحساس العَرَض، لأن غير شيء خارج عن الجوهر والعَرَض، لأن كل واحد من الجوهر والعرض شيء، وإنما أراد هذا الشاعر: إذا رأى غير شيء يُحفَل به في قوة قولك: إذا رأى شيئاً لا يحفل به ظنّه رجلا كقول العرب: إنك ولا شيءَ سواءٌ، ومحال أن يسوى بين الموجود والمعدوم، لأنهما في طريق التضاد، ولكنهم يريدون إنك ولا شيءُ يُعْبأ به سواءٌ ولكنهم قالوا: إنك ولا شيء، واكتفَوا به من قولهم وشيئاً لا يعبأَ به، لأن مالا يعبأ به كالمعدوم، ولذلك ألْزَمَناَ سيبويه الْنصب في قوله: إنما سرت حتى أدخلها، إذا كنت مُحتقراً للسَّير، قال الْفارسي: إنما ذلك لأنه لا شيء أقرب إلى طبيعة النفي من الاحتقار، والنفي عدم فجعل الاحتقار كالعدم.
وصية حمير بن سبأ
وحدّثني علي بن محمد، عن جده الدعبل بن علي، أن حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان وصى بنيه -وكانوا اثني عشر رجلاً- فقال: يا بني، ما اجتمع اثنان متآزران متعاضدان على أربعة نفر أو خمسة من أشتات الناس إلا غلباهم وملكا أسرهم وقيادهم، وما اجتمع خمسة نفر متآزرون متعاضدون على عشرة أنفار من أشتات الناس إلا غلبوهم وملكوا أسرهم وقيادهم، وما اجتمع عشر أنفار متآزرون متعاضدون على الجماعة التي يكون ميلهم عدد أوزان الأنفس من أشتات الناس إلا غلبوهم وملكوا أسرهم وقيادهم، وأيُّما عصابة غلبت أربعين رجلاً يوشك لها أن تغلب الثمانين والمائة وما فوق ذلك، وغلاب المائة حريّ أن يغلبوا المائتين، وغلاب المائتين حريّ أن يغلبوا الألف، ومنتهى العز للفرقة أن لا يطمع فيها الألف ألف رجل، وما من رجل أطاعه رجل فقام بالمجازاة له على ذلك إلا أطاعه عشرة، وما من رجل أطاعه عشرة أنفار فقام بالمجازاة لهم على طاعتهم له إلا أطاعه مائة رجل، ومن أطاعه مائة رجل فقام لهم بالمجازاة على طاعتهم له إلا أطاعه ألف رجل، وما من رجل أطاعه ألف رجل إلا وقد ساد لا محالة..
يا بني، أطيعوا الأرشد فالأرشد منكم، ولا تعصوا أخاكم الهميسع فإنه خليفتي بعد الله فيكم وأميني فيما بينكم، وإنه لسيفكم وأنتم حد ذلك السيف، وإنه لرمحكم، وأنتم سنان ذلك الرمح وما السيف لولا الحد، وما الحد لولا السيف، وما السنان لولا الرمح، وما الرمح لولا السنان، أنتم بالهميسع وله، والهميسع بكم ولكم، ثم أنشد يقول:
هميسعُ لم تجهلْ معَ الناسِ سيرتي … فسرْ لي بِها في النَّاسِ بعدي هميسعُ
بنيَّ بهمْ أوصيكَ خيراً فإنَّهمْ … تضرُّ بهم من شئتَ يوماً وتنفعُ
وعمك وابن العمِّ دونكَ بعده … مردُّ الأعادي الكاشحينَ ومدفعُ
همُ لكَ كهفٌ بل هُمُ لكَ موئلٌ … وهمْ لكَ من دونِ البريةِ مفزعُ
وليسَ عُقابُ الطير يوماً وإن لها … يذِلُّ وتنقادُ البغاثُ وتخضعُ
تؤولُ إلى وكرٍ سوى وكرهَا الذي … تؤولُ إليهِ للمبيتِ وترجعُ
هميسعُ إنَّ الناسَ وحشٌ وإنهم … إلى الرِّفق من خمس القوارب أسرعُ
هميسعُ جُدْ بالخيرِ تُجز بمثلهِ … فكُلُّ امرئٍ يُجزى بما هو يصنعُ
هميسعُ دارِ الناسَ تُعطَ قيادَهُمْ … فحظُّكَ منهم أن يُطيعوا ويسمعوا
هميسعُ لا والله إن أنتَ حاصد … طوالَ الليالي غيرَ ما أنتَ تزرعُ
فأُوصيكَ بالإفضالِ مثلَ وصيَّتي … بإخوتِكَ القُربى فهلْ أَنتَ تسمعُ
قال علي بن محمد: قال الدعبل بن علي: فيقال: إن الهميسع حفظ وصية أبيه حمير، وثبت عليها، وعمل بها، وأجرى الناس على ما كان يجريهم أبوه حمير حين ولي الملك بعده، وسار فيهم بسيرته، وكذلك ابنه أيمن بن الهميسع، وحفيده زهير بن أيمن بن الهميسع بن حمير الأكبر.
أمثال العرب
الصيف ضيعت اللبن
هذا ومذقة خير
وزعموا أن عمرو بن عمرو بن عدس بن زيد بن عبد الله بن دارم تزوج بنت عمه دختنوس بنت لقيط بن زرارة بن عدس بن زيد بن عبد الله بن دارم بعد ما أسنّ، وكان أكثر قومه مالا وأعظمهم شرفا، فلم تزل تولع به وتؤذيه وتسمعه ما يكره وتهجره وتهجوه حتى طلقها، وتزوجها من بعده عمير بن معبد بن زرارة وهو ابن عمها، وكان رجلا شابا قليل المال، فمرت إبله عليها كأنها الليل من كثرتها فقالت لخادمتها: ويلك انطلقي إلى أبي شريح- وكان عمرو يكنى بأبي شريح- فقولي له فليسقنا من اللبن، فأتاه الرسول فقال: أن بنت عمك دختنوس تقول لك اسقنا من لبنك، فقال لها عمرو قولي لها الصيف ضيّعت اللبن، ثم أرسل إليها بلقوحين وراوية من لبن، فقال الرسول: أرسل إليك أبو شريح بهذا وهو يقول: الصيف ضيعت اللبن، فذهبت مثلا فقالت وزوجها عندها، وحطأت بين كتفيه، أي ضربت: هذا ومذقة خير فأرسلتها مثلا. والمذقة شربة ممزوجة.