شعراء تشابهت أسماؤهم محمد بن تاويت التطواني رحمه الله

ما أكثر ما تتشابه الأسماء، أو يقع الناس في أوهام منها، أو تتصحف في الصحف..
ومن هؤلاء الذين توهم الناس فيهم، ثلاثة: هم ابن حبوس الفاسي، وابن حيوس الدمشقي، وابن حنون الإشبيلي.
أما ابن حبوس (بفتح الحاء وضم الباء المخففة) فهو أبو عبد الله محمد بن حسين بن عبد الله بن حبوس –مولى بني أبي العافية، كان كما يقول ابن الأبار في (تكملته)، (كان عالما محققا وشاعرا مفلقا، يتقدم ذلك أهل زمانه ويوقف على جودة شعره من ديوانه).
ويقول فيه ابن عبد الملك في “ذيله وتكملته”: “كان شاعرا مفلقا، من جلة فحول الشعراء، متفننا في معارف سوى ذلك، من كلام ونحو ولغة”.
وقال فيه المراكشي في “معجبه”: “كانت طريقته في الشعر، على طريقة محمد بن هانئ الأندلسي، في قصد الألفاظ الرائعة، والقعاقع المهولة، وإيثار التقعير، إلا أن محمد بن هانئ كان أجود منه طبعا، وأحلى مهيعا”.
ولما عبر عبد المومن إلى الأندلس، ونزل بجيل طارق، استدعى الشعراء..وكان على بابه منهم طائفة أكثرهم مجيدون، فدخلوا، فكان أول من أنشد أبو عبد الله محمد ابن حبوس…فأنشد في ذلك قصيدة أجاد فيها ما أراد، أولها:
بلغ الزمان بهديكم ما أمـلا *** وتعـلمــت أيامــه أن تعــدلا
وبحسبه إن كان شيئا قابلا *** وجد الهداية صورة فتـشكلا
ثم قال المراكشي: ولابن حبوس هذا قصائد كثيرة، وكان عنده (عني عبد المومن) نال في عهده ثروة، وكذلك في أيام ابنه، أبي يعقوب، وكان في دولة لمتونة (المرابطين) مقدما في الشعراء، حتى نقلت إليهم عنه حماقات، فهرب إلى الأندلس، ولم يزل بها مستخفيا، ينتقل من بلد إلى بلد، حتى انتقلت الدولة المرابطية، قرأ علي ابنه عبد الله من خط أبيه هذه الحكاية قال:
دخلت مدينة “شلب”، من بلاد الأندلس، ولي يوم دخلتها ثلاثة أيام، لم أطعم فيها شيئا، فسألت من يقصد إليه فيها، فدلني بعض أهلها على رجل، يعرف بابن المح، فعندت إلى بعض الوراقين، فسألته سحاة ودواة، فأعطانيها، فكتبت أبياتا امتدحه بها، وقصدت داره فإذا هو الدهليز، فسلمت عليه، فرحب بي ورد علي أحسن رد، وتلقاني أحسن لقاء، وقال: أحسبك غريبا! قلت: نعم، فقال لي: من أي طبقات الناس أنت؟ فأخبرته أني من أهل الأدب، من الشعراء، ثم أنشدته الأبيات التي قلت، فوقعت مكنه أحسن موقع، فأدخلني إلى منزله، وقدم إلى الطعام، وجعل يحدثني، فما رأيت أحسن محاضرة منه، قلما آن الانصراف، خرج ثم عاد ومعه عبدان، يحملان صندوقا، حتى وضعه بين يدي، ففتحه فأخرج منه سبع مائة دينار مرابطية: فدفعها إلي وقال: هذه لك.
ثم دفع إلي صرة، فيها أربعون مثقالا (دينار) وقال هذه من عندي، فعجبت من كلامه وأشكل علي جدا، وسألته: من أين كانت هذه لي؟ فقال: سأحدثك، إني أوقفت أرضا من جملة مالي للشعراء، غلتها في كل سنة مائة دينار، ومنذ سبع سنسن، لم يأتني أحد، لتوالي الفتن التي دهمت البلاد، فاجتمع هذا المال، حتى سبق إليك، وأما هذا فمن حر مالي.
هذا هو ابن حبوس، الذي كا حظيا عند المرابطين والموحدين، وهذه صفاته العلمية، ونعوته الشعرية، وقد جمع بعض أصحابه المختصين به –كا يقول ابن عبد الملك- ما علق بحفظه من شعر أو أحضره ذكره، إلى أواخر ربيعي عام 560، فناهز ذلك خمس مائة وستة آلاف بيت، وقد وقف منه ابن عبد الملك علة مجلد وسط، ومثله عباس بن إبراهيم المراكشي، إلا أنه –كما يبدو- نقل نص ابن عبد الملك، ولم ينسبه له..وحبذا لو كان هذا المجلد حتى الآن حيا يرزق..
أما ما هو بيدنا من شعره، حتى الآن فبعض أبيات، ومقطوعات من شعره، وهي تؤكد ما قاله فيه صاحب المعجب، ويظهر عليها أثر ثقافته الكلامية والعقلية، بوجه عام..وخير مثال لذلك هذه المقطوعة من قصيدة قالها في عبد المومن، وقد اصطحبه معه إلى رباط الفتح، فقال فيها:
ألا أيهذا البحر جاورك البحر *** وخيم أرجائك النفع والضر
وجاش على أمواجك الحلم والحجا *** وفاض على أعطافك النهي والأمر
وسال عليك البر خيلا كماتها *** إذا حاولت غزوا فقد وجب النصر
وليس اشتراك اللفظ يوجب مدحة *** ولكنه إن وافق الخبر الخبر
فمالك من وصف تشاركه به *** سوى خدع في النطق زخرفها الشعر
ومالك من معنى يشير إلى الذي *** تفوه به إلا السلاطة والغدر
فأنت خديم البدر والشمس عنوة *** وتخدمه في أمره الشمس والبدر
ويحويك شطر الأرض تعمر بعضه *** وفي صدره الأفلاك والبحر والبر
إلا أن يقول:
غدت نقطة في ضمن دائرة الدنا *** فلا أفق ينثاني عليها ولا قطر
فمن حيث ما رمت الجوانب نلتها *** بيسر ولا كد عليك ولا عسر
فلذك أعماق الجسوم وطولها *** وإن بعدت يعنى بإمدادها السحر
يفوح تراب الأرض من طيب نشره *** ففي معطس الأيام من طيبها نشر
إلى آخر القصيدة، التي تزخر بهذه التهويلات وتبدو فيها –واضحة- هذه الثقافات العقلية، من منطق وهندسة وغيرهما، وقد كان المغرب على ذلك العهد بدأ يتنفس بهذه العلوم، التي ازدهرت على عهد المنصور، فمن بعده..
وأما ابن حيوس (بفتح الحاء وتشديد الياء المضمومة) فهو أبو الفتيان، مصطفى الدولة، محمد ابن سلطان، بن محمد ابن حيوس الدمشقي، ولد سنة 394، وتوفي سنة 473، وقد ترجم له ابن خلكان في “فياته”، ترجمة وافية، وطبع ديوانه أخيرا فخرج في مجلدين كبيرين، وكان هذا الشاعر مداحا –كابن حبوس- للأمراء والكبراء، وشعره في هذا الباب، تبدو عليه مسحة من تلك التهويلات، ولو أنها لا تصل في ذلك إلى حد ابن حبوس، فمن شعره هذه الأبيات التي قالها من قصيدة، مدح بها، قائد الحاكم بأمر الله، وابنه الظاهر، ثم المستنصر بن الظاهر، هذا القائد هو أمير الجيوش، ختن الدزبري التركي، حاكم الشام، وإليكم الأبيات:
مَلِكٌ إِذَا مَا الْجَوْدُ غَبَّ هُمُولُهُ *** فلديهِ جودٌ مالهُ إغبابُ
سهلتْ خلائقهُ لباغي نيلهِ *** لكِنَّهُنَّ عَلَى الْعَدُوِّ صِعَابُ
تمضى الوسائلُ في ذارهُ لطالبٍ الـ *** ـجَدْوى وَتُقْضى عِنْدَهُ الآرَابُ
بِشْرٌ يُبَشِّرُ مَنْ يَرُومُ نَوَالَهُ *** وَالْبِشْرُ مِنْ قَبْلِ الثَّوَابِ ثَوَابُ
ترجى مواهبهُ وَسضحي خوفهُ *** ولَهُ بِأَلبَابِ الْورى إِلْبَابُ
متباينُ الأوصافِ أما عرضهُ *** فَحِمى ً وَأَمَّا مَالُهُ فَنِهَابُ
غَدَتِ الأْمَانِي وَالْمَنُونُ بِكَفِّهِ *** فَالأَرْيُ فِيها بِالسِّمامِ يُشَابُ
يقني وَيفني وعدهُ وَوعيدهُ *** لهذا جنى ً عذبٌ وَذاكَ عذابُ
وَإِذا يُهابُ الْخَطْبُ عِنْدَ حُلُولِهِ *** فبهِ لدفعِ النائباتِ يهابُ
سَالٍ عَنِ البِيضِ الْحِسانِ فَمالَهُ *** إِلاَّ هَوى الْبِيضِ الْقَواضِبِ دَابُ
لَيْثٌ أَظافِرُهُ الأَسِنَّة ُ وَالْقَنا *** عريسهُ وَلهُ الظبى أنيابُ
إنْ بانَ بانَ الموتُ في نظراتهِ *** أَوْ غَابَ فَالسُّمْرُ الشَّواجِرُ غَابُ
خرقٌ إذا كتبتْ إليهِ كتيبة ٌ *** مَرَقَتْ فَلَيسَ سِوى السُّيُوفِ جَوابُ
وَإذا حمى الأصحابُ نفسَ مملكٍ *** فَبِسَيْفِهِ يَسْتَعْصِمُ الأْصْحابُ
بفتى أميرِ المؤمنينَ وَسيفهِ عمرتْ بلادُ اللهِ وَهيَ خرابُ
إلى آخر القصيدة الطويلة، المليئة بالصنعة اللفظية والتهويلات، التي تقرب –إلى حد ما- من صنيع ابن حبوس الفاسي..
وأما (ابن حنون) (بفتح الحاء وضم النون المخففة ثم نون) فهو أبو العباس أحمد بن حنون الاشبيلي، معاصر ابن حبوس الفاسي، ولا نعرف عن تاريخ ولادته ووفاته شيئا، وكل ما نعرف عن تاريخ، أنه اتهم بالقيام مع الثوار، على يوسف بن عبد المومن، ثم عفى عنه في أبام ابنه المنصور..وقد ورد ذكره في الجزء الثاني من نفح الطيب، كما ترجم له ابن سعيد، ونقل عنه أبياتا منها هذه التي قالها في اشتر:
أبو العباس أحمد بن حنون الإشبيلي
من بيوت إشبيلة وأغنيائها آل أمره إلى أن اتهم بالقيام على السلطان، ففر على وجهه، ثم عفى عنه، في مدة المنصور بن يوسف بن عبد المؤمن. وهو ممن ذكره صفوان في كتاب زاد المسافر، وعنوان طبقته قوله في أشتر:
يا طلعة أبدت قبائح جمة *** فالكل منها إن نظرت قبيح
أبعينك الشتراء عين ثرة *** منها ترقرق دمعها المسفوح؟
شترت فقلنا زورق في لجة *** مالت بإحدى شقتيه الريح
وكأنما إنسانها ملاحها *** قد خاف من غرق فظل يميح
وقوله:
وبيضاء تحسبها درة *** تذوب إذا ذكرت، أو تكاد
تنمنم بالمسك كافورتي *** محياً حوى الحسن طراً وزاد
فقلت، وقد كان ما كان من *** تخلل خيلانها بالفؤاد:
أكل وصالك ذاك البياض *** وبعض صدودك ذاك السواد؟!
فقالت: أبى كاتب للملوك *** دنوت إليه بحكم الوداد
فخاف اطلاعي على سره *** فلم يعد أن رشني بالمداد
هذا نموذج من شعر ابن حنون، وهو يدل على ذكاء، أكثر مما يدل على شاعرية، فأسلوبه في باب أساليب الشعراء ضعيف، كما يبدو في هذه الأبيات، ولهذا لم يعلق ابن سعيد على شعره –ما عدا موشحاته- بشيء، وكل ما قال فيه أنه “من بيوت اشبيلية وأغنيائها”..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *