سياسة القرب والقضاء على الهشاشة قصة قصيرة إنتاج إبراهيم أبوالكرم

المشهد الأول: طلق الولادة
الساعة العاشرة ليلا، يشتد وجع الولادة على امرأة في ريعان شبابها، يطلب زوجها من أحد الجيران أن يوصله على سيارته المتواضعة إلى مستشفى الحي. تقف السيارة وعلى الباب ثلة من الممرضات تسمع قهقهاتهن من أبواب المستشفى، لتنقطع مع انفتاح باب السيارة، وتعلو الكآبة وجوههن، ويتهامسن في سخرية، ثم تقوم إحداهن لتتبع المرأة المتوجعة.
وتبدأ الممرضة في عرض شريطها المعتاد، بصوت لا أثر فيه للنسوية.
– أي وقت هذا؟ لا تتفكرن المستشفى إلى بعد حلول الظلام؟ وبعد انصراف الطبيب..
– وهل الوجع يتشاور ياسيدتي؟ لا أدري متى سيأتي.
– كفى كفى من هذه الترهات. كلما أحست إحداكن بذبيب نمل في بطنها، تأتي لتزعج راحتنا نحن.
تقوم الممرضة بمعاينة كاذبة مصحوبة بحركات عصبية، وكلام جارح. ثم تنطلق لتخرج تاركة المريضة على السرير.
– ماذا قلت ياسيدتي؟
– ألم تفهمي؟ أين عقولكن؟ لم يأت بعد أوان ولادتك.
تخرج الحامل بعد أن ناولتها الممرضة جرعات من الحسرة والحزن، ليؤنس وجع ولادتها.

المشهد الثاني: في المستشفى الكبير
انطلق الرجل بزوجته في حيرة يجوب شوارع المدينة الحمراء، يقف على أحد مستشفياتها الكبيرة، فيمرق كالسهم إلى البواب:
– هل من الممكن إدخال السيارة إلى الداخل، زوجتي تتوجع لتضع.
– لا سيدي، لا تلد هنا إلا من كانت حالتها خطيرة.
– وما أدراني يا أخي؟ فالطبيبة هي التي تعرف..
يقطع كلامه:
– ذاك شأنك؟ لا تعرض علي قصة حياتك.
بينما الرجل في أخذ ورد مع البواب، تقف سيارة من النوع الرفيع، فيهرع إلى نافذتها:
– نعم مولاي هل من مساعدة.
– أخرج الرجل يده من النافذة مصافحا يد البواب وقد خلّف فيها ما يجعل البواب يكون تركيزه على نصفين، نصف يحلل الورقة المالية ليعرف قدرها، ونصف آخر ينتظر سماع ما يريد صاحب السيارة قوله.
– زوجتي حامل وقد أحست بشيء من الوجع.
– بكل فرح ادخل سيدي، سألحق بك لأنادي لك الممرضة.
تلج السيارة الثانية إلى داخل المستشفى وتستمر قصتها على غرار بدايتها.
وتخيب السيارة المشؤومة راجعة، ينبعث منها صراخ المتوجعة.

المشهد الثالث: المستشفى الخاص بالولادة والأطفال
البرد قارس، والأحداث تتوغل في ليلتها، ويتبادل الزوج مع جاره الحديث حول معاملة الممرضات، ومشاكل المستشفيات، ويقطع كلامهما صراخ المتوجعة مرة بعد أخرى. وينهي الزوج الكلام:
– لكن هذا المستشفى دون تلك المستشفيات، يحكي الناس أنه لا رشوة ولا معارف، أسسه مولانا نصره الله للفقراء، ولا تدفع أي شيء.
وتقف السيارة بعد منتصف الليل أمام المستشفى، ويطل البواب من نافذة السيارة: إلى أين؟
– زوجتي ستلد.
– اللهم يسر؛ ادخل.
في قاعة الاستقبالات: ممرضة شابة تسجل معلومات الزوج والزوجة، وقبل أن تدخل الزوجة إلى قاعة الفحص تسأل الزوج:
– ألك أحد هنا؟
– مريض أو من..؟؟
فهمت الممرضة المقصود، فردت: لالا.. ارجع في الصباح حين يُسمح الزيارة.
خرج الزوج ليودع جاره، الذي اقترح عليه الرجوع في الصباح، لكن الزوج أبى إلا أن يقضي بقية ليلته تحت قر الجو، مستنشقا عبيق أشجار المستشفى الممزوج بروائح الدواء، وتهيم ذاكرته في نسج الأحلام حول خلفه البطل، وعن حياته ودعابته ولعبه وشبابه ومستقبله.. ثم لا يفتأ أن تحطم أحلامه شكوك نجاح الولادة، وتراوده أفكار موت زوجته، لتنهمر من عينيه دموع الشفقة والحزن، ثم يهتز كيانه وهو يسمع الصراخ والآهات وهي تختلط، ويواصل بعضها بعضا. فيعود إليه ضغط الانتظار.
بوابة المستشفى لا تكاد تبلع مجموعة حتى تلفظ آخرين، وجوانب المستشفى يملؤها المنتظرون يراقبون العرض: بعد كل لحظة تقف سيارة لتحمل معها امرأة دخلت مفردة وخرجت بما وضعت، وتنزل أخرى قد أثقلها حملها، وأضر بها وجعها لتلتحق بسرير الولادة.
وهناك في زاوية ما من فضاء الساحة الداخلية للمستشفى امرأة وحيدة تفترش الأرض، تثير استعطاف الداخل والخارج. أخبر الناس أنهم رفضوا إدخالها، وزعم بعضهم أنها خادمة بدوية، كانت تشتغل عند عائلة مراكشية فحملت عندهم وأتوا بها إلى المستشفى وتَخَلّوا..

المشهد الرابع: بعد الخروج من المستشفى
فرح الزوج البئيس بمولوده البكر، واستنفد كل ما كان بحوزته مما خبأه لدواهي الزمن. ثم رجع ليسحب شهادة الولادة، فطلب منه دفع ثمن لا يناسب حالته، حاول سلب عطف الموظف فبدأ يحكي قصته: ما أنا يا سيدي إلا طالب معاش، أحمل للناس أمتعتهم، وو… قطعه الموظف: لا يهمني هذا الأمر، ائيتني بشهادة الضعف.
وقف لحظة يتأمل ما تراه عيناه: لافتات تملأ جدران المكان: لا للرشوة، جميعا ضد الحاجة.. لم يكن الزوج ليثق بما يراه، فقد ألف مثل تلك الشعارات على شاشات التلفاز، وكيف يصدقها وعيناه تكذب ما يقال.

المشهد الخامس: في المقاطعة
وجد الزوج نفسه وسط هالة من جمهور من الناس، أمام باب المقاطعة بعضهم يخرج ضاحكا مستبشرا بقضاء غرضه، والبعض يخرج سابا شاتما، والغضب يغشى وجوه آخرين، وقليلا ما ترى أحدا إلا ويحمل أوراقا في أيديهم، وأناس يدخلون ثم يخرجون ثم يعودون إلى الدخول كأنما نسوا شيئا، لا تكاد تعرف صاحب الحاجة من قاضيها.
وباحة المقاطعة متكتظة بالمنتظرين، أما الداخل فالانتظار فيه واجب لكل طالب حاجة. والنداء يسمع من الداخل مرة ومن الخارج أخرى، منظر أشبه ما يكون بالمحطة الطرقية إلا أنه بلا حافلات.
اندفع الزوج يسأل داخل المقاطعة يسأل عن مقدم الحي، أخبروه أنه خرج ليراقب البناء، آثر أن يسأل في أحد المكاتب، لم يتمكن من الوصول إليه، فالطابور طويل، والازدحام شديد، كأنما يحاولون استلام الحجر الأسود، ومن وراء هؤلاء المترقبين دورهم، يلوح أحد بيديه إلى صاحب المكتب، أو ينتهز رفع عينيه إلى الجماهير ليغمز له بعينيه، أو ينادي عليه باسمه ويخبره بمن أرسله ممن له به علاقة أو ممن هو أعلى منه رتبة. فيخرق الصف ويصل إلى قعر المكتب فيطبع أوراقه ويرجع بكل صلف ودون حياء.
حينما يصل الزوج إلى صاحب المكتب، يلقيه دون أي مبالاة إلى مكتب آخر، بكلمة أو نصفها. لكن لم يبق من الوقت ما يكفي لأن يقف في طابور المكتب الموالي لينتظر نوبته. يصادف خروج أحد الموظفين فيسأله عن مطلوبه، فيخبره أن قصته لن تنتهي عند شهادة الضعف، بل لابد من جمع عدد من الوثائق، من مصالح مختلفة متناثرة في أرجاء المدينة الحمراء. يصادف أحد الناس الذين قضيت مصالحهم قائلا: لا يقضي حوائجك إلا جيبك أو معرفتك.
يشرع يعُدّ ما ستكلفه إياه التنقلات بين الإدارات، ووقت عمله الذي سيضيع في طوابيرها، وثمن نسخ الأوراق الإدارية، وطوابع المصادقة وغير ذلك، فينسى مطلوبه أو يتناساه. ويقول محاولا إقناع نفسه:
الولد في المنزل، وزوجتي بخير. فلماذا أنا هنا، وماذا سيقع حتى ولو لم أسجله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *