في المحيط للصاحب ابن عباد: الأدب مَعْرُوْف؛ والجَميعُ الآدَابُ، أدِيْبٌ وأدَبَاءُ، وأدُبَ الرَّجُلُ يَأدُبُ أدَباً. وفي الصحاح: أدَب النَّفْس والدَّرْسِ، تقول منه: أَدُبَ الرجُلُ بالضم فهو أَديبٌ، وأَدَّبْتُهُ فَتأَدَّبَ. وفي معجم مقاييس اللغة لابن فارس: الهمزة والدال والباء أصل واحد تتفرع مسائله وترجع إليه: فالأدْب أن تجمع النّاس إلى طعامك. وهي المَأْدَبَة والمأدُبَة ومن هذا القياس الأدَبُ أيضاً، لأنّه مُجمَعٌ على استحسانه.
وفي المغرب في ترتيب المعرب للمطرزي: لِأَنَّهُ يَأْدِبُ النَّاسَ إلَى الْمَحَامِدِ أَيْ يَدْعُوهُمْ إلَيْهَا. وعَنْ الْأَزْهَرِيِّ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى كُلِّ رِيَاضَةٍ مَحْمُودَةٍ يَتَخَرَّجُ بِهَا الْإِنْسَانُ فِي فَضِيلَةٍ مِنْ الْفَضَائِلِ.
ثم تطور النظر في ماهية الأدب حتى وصل زمن ابن خلدون الذي الأدب: “هو حفظ اشعار العرب وأخبارها والأخذ من كل علم بطرف” وقال: “هو الإجادة في فني المنظوم والمنثور على أساليب العرب ومناحيهم وليس هذا التعريف مقتصرا على نظر ابن خلدون بقدر ما يمكن أن يصور لنا نظرة عصر من العصور خاصة في القطر المغربي.
وحَبُلت عصورنا الحديثة بمواليد جديدة، قنع قفاة الأدب أن تكون أبناء للأدب لشدة شبهها به، فكان الأمر كذلك، فصارت المسرحيات والروايات والرسم والموسيقى والأفلام من جنس الأدب.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه: إذا قبِل الأدب أن يضم في تعريفه كل هذه الأشكال، فهل له حدود لا ينبغي تعديها، أم أنه مدلع له الحرية المطلقة حتى لو جنا على دين الناس؟؟
ظل الأدب شيئا محبوبا إلى النفوس، مقبولا في صدور الأكثرين، يروح عن الأنفس ما تراكم عليها من هموم الحياة، ويسرح بالأرواح بعيدا عن ضيق الواقع. وقد قام الأدب بمهمته في أكثر من هذا حيث ركب موجه رائدوه لإيصال الكلام الثقيل في مضمونه في شكل خفيف مقبول لدى الأنفس، ولطالما مرر ما يخاف من التصريح به في قوالب لا يفهم كنهها إلا أديب عاقل، فهذه حكايات كليلة ودمنة قد وضعت في الأصل لمغزى سياسي يخاف صاحبه أن لو صرح به، فقادته بلاغته وفصاحته إلى إظهار مكبوته في ذلك الشكل المرح، على ألسنة الحيوانات.
وإذا كان هذا نموذجا لامتطاء ثبج الأدب لآراب سياسية -وهو أمر كثير في ثقافتنا العربية- فإن الأخطر من ذلك أن يجعل معبرا نحو بث السموم القاتلة للدين، والمفسدة للعقائد، تحت مظلة الأدب، وجمالية الشكل والتعبير. مما يحتم على الأمة الإسلامية تقييض نقاد مدققين في الأدب، مشبعين بالثقافة الإسلامية الصحيحة، لتصفية ما يحترم الدين ويسير وفقه مما يدنسه ويغير مناره.
وحينما نكشف الستار لنحقق في حدود الأدب، وحدود الإسلام، وعلى أيهما يجب احترام الآخر، نقف أمام بحث جزئي من البحوث النقدية، ألا وهو موقف الإسلام من الشعر. لنجد أن الإسلام لم ينه عن الشعر لذاته، وإنما ذم نوعا من الشعراء بدليل وصفهم، وإخراج غيرهم منهم بالنص، فقال {وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} وهذا كما قال لبيد حين طلب منه شعره: إن الله أبدلني بالشعر القرآن خيراً منه. وكل شاعر في الإسلام يهجو ويمدح من غير حق ولا يرتدع عن قول دنيء، فهم داخلون في هذه الآية وكل تقي منهم يكثر من الزهد ويمسك عن كل ما يعاب فهو داخل في الاستثناء.
إن الأدب مهما لطف وحبب إلى النفوس فإن أثره نفّاذ إلى القلوب، مغير للأفكار والمعتقدات، يتسلل إلى الشعور والأحاسيس، فيحمل الشخص إما على الحسن الحميد، أو على الذميم القبيح، وحين ذلك يمكن إدانته بمجاوزته لحده، ومخالفته لتعاريفه وأغراضه.
ومما يؤكد البحث في الموضوع ما اشتهر في كتب الأدب من أشعار وقصص تضرب الأدب في عمقه، فتنشر العصبية المقيتة تحت مظلة أدب الفخر، وتشيع الفواحش في شكل الخمريات والتغزل بالنساء والمردان، وفي كثير من الأحيان تنشر المذاهب الفاسدة، والعقائد المبتدعة، مثل ما قاله بعض العلماء في كشف اعتزالية الزمخشري في تفسيره الكشاف: إن ذلك يحتاج إلى منقاش؛ وذلك لدقته.
ومثلما غدا قول الشاعر:
قد استوى بشر على العراق بغير سيف ودم مهراق
شاهدا لمؤولي صفة استواء الله سبحانه بالاستيلاء، وتناقلته كتب العقيدة الأشعرية وجعلته دليلا لها، وهو بيت للأخطل النصراني.
ومن تلك الخروقات ما فاهت به ألسن بعض الشعراء والأدباء من استخفاف بالدين، وتلاعب بمقدساته، وانتقاد لشرع الله سبحانه، وتعرض بأنبيائه ورسله، كما وقع ذلك قديما وحديثا، فمن القديم: قول المعري معترضا على حكم قطع يد السارق في الحد:
يد بخمس مئين عسجدا وديت … ما بالها قطعت في ربع دينار
تناقض ما لنا إلا السكوت له … ونستجير بمولانا من النار
لكنه أجيب ردا مفحما، فقيل فيه:
قل للمعري عار أيما عارِ جهل الفتى وهو من ثوب التقى عاري
يد بخمس مئين عسجدا وديت لكنها قطعت في ربع دينار
حماية النفس أغلاها وأرخصها حماية المال فافهم حكمة الباري
وأجابه القاضي عبد الوهاب المالكي بقوله: بأنها كانت ثمينةً لما كانت أمينةً، فلما خانت هانت.
هذا نموذج من انحرافات الأدباء عن الجادة، وما يقابله من صد العلماء لهم، والرد عليهم، بل كانت إقامة الحد في انتظارهم في كثير من الأحيان، لزعزعتهم معتقدات الناس، وهدم ثوابتهم. ومن ذلك ما حكاه ابن المعتز في طبقات الشعراء عن صالح بن عبد القدوس وكان أديبا شاعرا مجيدا أنه أخذ لزندقته وتعرضه للنبي صلى الله عليه وسلم وآله في أبيات قالها، فأدخل على المهدي فأنكر أن يكون قالها، فلما خاطبه أعجب به لغزارة أدبه وعلمه وبراعته، وبما رأى من فصاحته وحسن بيانه وكثرة حكمته، فأمر بتخليته، فلما ولى رده وقال: ألست القائل:
وإن من أدبته في الصبا … كالعود يسقي الماء في غرسه
حتى تراه مورقاً ناضراً … من بعد ما أبصرت من يبسه
والشيخ لا يترك أخلاقه … حتى يواري في ثرى رمسه
إذا ارعوى عاد إلى جهله … كذي الضنا عاد إلى نكسه
قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: وأنت تترك أخلاقك؟ ونحن نحكم في نفسك بحكمك. فأمر به فقتل. وعلق ابن المعتز قائلا: عليه لعنة الله إن كان قالها.
وقد عرف العصر العباسي بقمع الكثير من الشعراء الزنادقة المتسترين بالشعر والأدب، فلم تشفع لهم فساحة الأدب، ولا حرية التعبير، ولا الإبداع في الكلام، أمام العبث بالشريعة الربانية المقدسة، ونحن نعرف أن العصر العباسي كان عصر وفرة الشعر، واعتلاء الذروة في الإبداع والتفنن، وبلوغ الغاية في تذوق الأدب وإنشائه، وتشجيع أهله، والغوص في أعماق أدب العرب، فهل يقال إن أولئك الولاة ضيقوا على الأدب بما فعلوا، وأطاحوا بقيمته، أم أنهم قاموا بواجبهم تجاه هؤلاء المفسدين لأديان الناس، صيانة للدين وحفظه، الذي هو أحد الضروريات الخمس التي لا صلاح للناس إلا بها.
أما عصرنا الحديث فقد تعرض الأدب لتغييرات كثيرة في ملامحه، إذ انفتح على ثقافات عدة في ظل العولمة، واستفاد من تجارب غير مسبوقة له، وتغربت جنسيته شيئا ما، فعرف السينما، والروايات المتنوعة المواضيع، والشعر الحر، وغير ذلك من الفنون التي لم يتردد نقادنا المحدثون من إدخالها تحت غطاء الأدب، وأدخلت هذه الفنون الجديدة في الأدب معها أشياء كثيرة تصطدم والثقافة الإسلامية الصافية، نظرا لضعف الوعي الإسلامي، وغلبة الجهل بالدين في عصرنا الحديث، وسعة عيون الغربال الناقد، تحت وطأة الاستعمارات المتكررة والمتسعة في العالم العربي، وتدهور الأوضاع الداخلية في الأوساط الإسلامية، وتقطع أوصال الوحدة بين الدول العربية والإسلامية، ففرض الاحتلال ثقافته ولغته، ونصر أدبه وتفكيره، وظهرت كتب المستشرقين وتحقيقاتهم، ووصلت أيديهم إلى مخطوطات العرب قبل العرب، ورحلت فئات من المجتمع العربي إلى الغرب لتتشبع بأدب عربي كما يراه الغرب، فرجعت تلك الفئة لتكتب لنا روايات وكتابات بدماغ غربي بلسان عربي، فارتكبت في حق الإسلام والمسلمين جرائم يحفظها التاريخ، وتصدت لخروقاتهم كثير من الأقلام، أمثال العالم الأديب محمود محمد شاكر، في كثير من كتابته كمؤلفه الرائد: “الطريق إلى ثقافتنا”.
ولابأس أن أذكر قصة حكاها عن أبيه محمد شاكر، وهي ذات صلة بموضوعنا، وهي أن خطيبا مفوها من خطباء القصر، كان الملك فاروق يحضر لصلاة الجمعة عنده، فصادفت جمعة رجوع د.طه حسين من الديار الغربية، فقال الخطيب مادحا الملك: ما عبس وما تولى إذ جاءه الأعمى. فعرّض بالرسول الكريم الذي حكى القرآن أنه عبس وتولى إذ جاءه الأعمى، فقام الشيخ شاكر، الناقد الغيور على دينه، في وجه الخطيب، ووصلت القضية للحكم، فطلب الشيخ أن يكون القضاة مستشرقين لعلمه أنهم سينصفونه، وتوالت الأيام ونسيت القضية لما علم الخصم أن الشيخ سيربحها، وحدث أن الشيخ ذهب إلى مسجد آخر فوجد الخطيبَ قد صار شغالا في مراحيضه ينظفها ويرتب نعال المصلين! فسبحان من يعز من يشاء ويذل من يشاء. فانظر كيف جنى الأدب على صاحبه، لما لم يحسن الأدب مع نبيه!
وهكذا راجت سوق كثير من الأفكار الخطيرة، والعقائد المنحرفة، جراء الاعتذار لهذا وذاك من الأدباء، انطلاقا من مناقشة القصد تارة، واتكاء على أن المقصود جمالية الشكل، ولطف الأسلوب، وظرافة التعبير دون مناقشة المضمون، أحايين أخرى، فاعتذر لهم الكثيرون ممن أغراهم بريق الكلام عن سم المضمون، بل نال أولئك الأدباء أعلى الأوسمة والنياشين، واحتفي بهم في المحافل والسهرات والندوات، وحازوا جوائز خصصتها لهم جهات بعيدة عن الإسلام كل البعد، كتلك التي يسمونها “نوبل”.
فإذا كان الأدب كما عرفه قدماؤنا يحمل على المحاسن والمحامد، وفضائل النفس والدرس، فأين هذا الأدب من هذه الروايات والأفلام والمسرحيات التي ملأت الدنيا طنينا، وهي لا تعدو أن تسيء الأدب إلى الدين وإلى الأخلاق، وتحمل على الرذائل والخنا؟
إننا في حاجة إلى نقد صاف متزن، يتماشى ومبادئنا، ويحترم عقائدنا، ونتجه نحو أدب إسلامي، يبوح بالمكامن، ويكشف الأحاسيس، ويعبر عن الحياة كيفما شاء وبما شاء، لكن مع احترام معالم الدين، ومقدساته وحدوده، بل ويكون في خدمته.