تاريخ علمنة الأدب إعداد: ذ إبراهيم أبوالكرم

لقد سبق في مقالات سابقة بما هو كاف في الوضوح والبيان أن الأدب يصطبغ بصبغة بيئته التي نشأ فيها، والقدح الذي نضح منه، كما قيل: وكل إناء بما فيه ينضح، ومن ثم كان الإنتاج الأدبي تابعا لرؤية الأديب للحياة، ومن هذا المنطلق قسم النقاد الأدب إلى إسلامي ومسيحي، وأدب المتصوفة، وأدب الحداثة فيما يروم التجديد والتحرر من آصار الدين والعادة زعموا، وغير ذلك من المذاهب المشتهرة.

ويأبى علمانيو الأدب إلا أن يمرقوا من الدين مروقا ظاهرا، تحت غطاء الفانتازيا (Fantasia) والتي تعني حسب معجم المصطلحات الأدبية لمجدي وهبة: «الأثر الأدبي الذي يتحرر من قيود المنطق والشكل والإخبار بحقائق في سرده، وإنما يعتمد اعتماداً ‏كلياً ‏على إطلاق سراح الخيال يرتع كيف شاء بشرط أن تكون النتيجة فاتنة لخيال القراء أو النظارة» ولو على حساب الدين.
فقد يروم الخيال اتخاذ الدين دمية في يده يعبث بها كيف يشاء ليصل للنتيجة الفاتنة، حسب نظرة العلمانيين، ولتحقيق هذا الهدف طفق بنو علمان يشيعون في الناس محاربة الدين للأدب، وراحوا ينظرون لإبعاده ونبذه، بل ومحاربته بخيلهم ورجلهم في كتاباتهم الأدبية، فصرنا نقف على انحرافات عدة تتسلل إلى أفكار تلامذتنا وأبنائنا، وتدرس في كلياتنا، وتتناول بالتحليل والمناقشة والتوسع والشرح.
واغترت ثلة من المسلمين بالغربيين اللادينيين الذين لا تتم جمالية لوحاتهم الأدبية إلا بعد تشويه الأخلاق، والتحرر من الفضائل، والسباحة في الماورائيات بالظن والشك، والسخرية من معتقدات الناس، ونسفها.
وقد قيض الله لهذا الأدب من يحمل المنقاش لإخراج فساده، وتحذير الناس من الولوغ في رذالته، فراح النقاد خاصة بعد الصحوة التي استفاق لها المسلمون في العصر الحديث يفضحون خروج الأدباء عن الجادة، ويردون الأدب إلى أدبه، وسأحاول في ما سيأتي من المقالات فضح سوء أدب الأدباء مع الدين ومقدساته، وكشف اللاأدب الذي رامه العلمانيون والحداثيون، لعل ذلك أن يكون أقل ما يستوجبه علينا ديننا من النصيحة له، والذب عنه.
“وبما أن الأدب -ومثله الفن- مجال رحب وميدان فسيح تنوء به الدراسات المتخصصة المتسفيضة فضلاً عن البحوث المنهجية الدراسية والأدب الأوربى خاصة له قصته الطويلة وتاريخه السحيق؛ فوق أن معظم قضاياه كانت وستظل مثار نزاع ومدار جدل شديد بين الباحثين والنقاد، وتلعب الاتجاهات الدراسية والخلافات القومية والمذهبية دورها فى ذلك.
وإذا وافقنا الرأي القائل بأن الأدب هو (صورة الحياة وانعكاسها الواضح) فما بالك بصورة حياة كحياة أوربا حائرة مضطربة متهافتة متناقضة؟
وهذه الأمور وغيرها -مما لا يخفى على المطلعين– تجعل البحث في هذا المجال مخوفا بالمتاعب وتستنفذ جهد الباحث دون أن يستطيع أن يخرج بخلاصة متناسقة تعبر على الأقل على مدى جهده إن لم تعط الصورة المطلوبة للموضوع.
ومن الجلي أننا لا نبحث في الأدب من حيث هو أدب؛ وإنما ننظر إليه من خلال أنظار العام الموضوع أي من جهة علاقته بالدين، كما أننا مقيدون بالحجم الذي لا ينبغي أن يتجاوزه هذا الجانب من جوانب الحياة البشرية.
وللوقوف على محاولات العلمانيين إفساد الأدب في أرض المسلمين، يستحسن رصد تعلمن الأدب عبر مراحل تاريخه ابتداء من أرض العمانية الأولى أوروبا.

 أولا عصر النهضة الأوربية:
الكلاسيكية الجديدة: يقترن مسمى “عصر النهضة” الأوربية بالحركة التى نشأت فى إيطاليا –المركز الحضاري الإسلامي الثاني في أوروبا– واستهدفت بعث الآداب الإغريقية القديمة التي أطلق عليها اسم “الآداب الإنسانية”(1) تمييزا لها عن كتابات رجال الكنيسة اللاهوتية!
لقد فوجئت أوروبا الغارقة فى سبات القرون المظلمة بنور الحضارة الإسلامية فانبهرت به وأحست بواقعها المرير تحت ضغط الكنيسة التي جثمت على فكرها وشعورها وسلوكها وأفقدتها الإحساس بإنسانيتها.
وهذه اليقظة المفاجئة أوقعت النفسية الأوربية فى مأزق حرج إذ تصادم في داخلها دافع ومانع قويان:
الأول: دافع الاستمتاع بنور الإسلام والدخول في فردوس حضارته، حيث التوازن الفريد بين الدنيا والآخرة، وبين الروح والجسد، ففي ظله تنطلق إنسانيتهم لتعبر عن ذاتها بعيداً عن أغلال الرهبانية وشطط الكنيسة.
والآخر: مانع التعصب والعداوة الحاقدة للإسلام وحضارته تلك التي عمقتها الحروب الصليبية وبلغت أقصى مداها في المد الإسلامي الذي قام به المجاهدون الأتراك.
وكان المانع أقوى من الدافع فخرجت أوربا من ذلك التناقض النفسي بالبحث عن وسيلة تتيح لها الخلاص من براثن السلطة الكهنوتية الطاغية دون أن تتخلى عن تعصبها وعداوتها للإسلام وأهله ولم تكن تلك الوسيلة سوى عملية “اجترار الماضي” ببعث تراثها الوثني الإغريقي والالتصاق به لاسيما جوانبه الشهوانية البهيمية!
وهذا الاتجاه -بطبيعة الحال- أزعج الكنيسة وإن كان أفضل لديها بكثير من احتمال إقبال أتباعها على الإسلام، وحاولت جهدها أن تسير الموجة لصالحها وتسيطر على الوضع بحيث تبقى عقائدها وتصوراتها تصبغ الأدب وتظل بصماتها بارزة فى فنه المنحوت والمرسوم.
ولكن عوامل التحرر والانطلاق كانت أقوى من حواجزها؛ واستطاع عصر النهضة أن يخطو خطوات كبيرة وجريئة للوصول إلى علمانية كاملة للأدب والفن؛ عليها قام الأدب العلماني الحديث وارتكز.
ونستطيع أن نستعرض بعض ملامح الأدب والفن في ذلك العصر معتمدين على بحوث وتحليلات بعض المفكرين الأوربيين، فنجد أن أبرها ما يلي:

1- بعث التراث الوثنى الإغريقى:
وهذه هي الخطوة الأولى نحو الانفلات من سلطة الكنيسة والانقضاض على فكر وتقاليد القرون الوسطى، فعن طريق إحياء الآداب الإغريقية استطاع أدباء وفنانو النهضة النفاذ إلى عالم أخر خارج من مألوف عصرهم ولا أثر فيه لشيء من اللاهوتيات.
لقد نفذوا أول الأمر من كوة صغيرة لكنها ظلت تتسع حتى انتفض بناء الكنيسة والتقاليد من أساسه، وطلعوا على الفكر الأوروبى بمفهومات جديدة ومعايير سبقوا بها النهضة الفكرية العقلانية، وذلك ما يعده الفكر الحديث أعظم مآثر النهضة.
يقول “برنتن”: “إنه طالما كانت العصور الوسطى في الواقع عصوراً دينية وطالماً أن عصر النهضة يعني على الأقل محاولة العودة إلى الوثنية اللادينية؛ إن لم نقل الزندقة فإن فن العصور الوسطى يرتبط بالكنيسة؛ أما فن عصر النهضة فيتمتع بحرية بوهيمية، وهذه هي حقيقة الأمر، وكان النحاتون والرسامون في ذروة عصر النهضة يقلدون العري الكلاسيكي كما يقلدون كل شئ كلاسيكي أخر، فالفنان بدأ شيئا يشبه نوع الحياة، وحشياً فاحشاً مجازفاً ولكنه عظيم الأهمية ومن المفروض أنه لا يزال يقوده”.
“لقد كان فنانو عصر النهضة الذين كرسوا جل حياتهم الفنية لغرض جعل المعتقدات المسيحية واضحة تبدو في أجمل مظاهرها للعيان يستمرون في القيام بالأعمال التي ورثوها عن الرواد السابقين للعصور الوسطى، هذا وقد تحول الفن في العصور الحديثة إلى فن علماني تقريباً حتى أن الفن الديني كاد يختفي أو بالأحرى أصبح فى الدرجة الثانية استنتاجاً وتقليدياً”.
“إن الكتاب الخياليين هم الفنانون القريبون من قلب الوضع الإنساني نحو الحياة. إن بترارك ورابله وشكسبير وسرفانتس والرسامين والنحاتين والموسيقيين الذين لا نزال نعلم أسماءهم هم نوع من الرجال الذين ينشدون طريقاً وسطاً بين المسيحية التقليدية كما خلفتها العصور الوسطى؛ وبين العلمانية الحديثة التى يبدو أنها تقلع جذور السحر والسر من الكون!!..
كان هؤلاء الفنانون في تمرد مدرك كثيراً ضد التقليد المسيحي خلال العصور الوسطى لقد أنكروا مستنداً وبات عليهم -وهذا أكثر أهمية- أن يبحثوا بل يقيموا مستنداً أخر، فقبول هؤلاء العلماء المجرد لأي شيء كتبه قدماء اليونانيين والرومانيين لم يكتف به رجال الفكر، وككل شخص ألم بكل ما له علاقة بالعقل عاد هؤلاء الفنانون إلى اليونانيين والرومانيين، وكانوا بذلك كالمهندس المعماريين حيث أعادوا تجديد موادهم (2)”.
يتبع..

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *